الغربة باسم السياحة حين يصبح السعودي سائحًا في ذاته

بقلم - علياء الشهري
في كل موسم عطلة، يتكرر المشهد كطقس جماعي شبه مقدس: آلاف السعوديين يشدّون الرحال إلى الخارج، حاملين معهم حقائب مملوءة ليس فقط بالملابس، بل بما هو أثقل… هوس داخلي بالتجربة الأجنبية، قلق اجتماعي من البقاء، ورغبة دفينة بالظهور لا الاستمتاع.
السؤال البسيط الذي يتجاهله المهووسون بالسفر الخارجي هو: أين تكون المتعة حقًا؟
هل في أرضٍ لا تشبهك؟
في لغة لا تفهمك؟
في لسانٍ لا يلفظ اسمك؟
في طبيعة وإن بدت فاتنة لكنها لا تعرفك ولا تحتفي بك؟
هل المتعة في “غربةٍ كاملة”: غربة الروح، الجسد، الفكر، السمع، البصر، والوجدان؟
إن المتأمل في هذه الظاهرة، لا يرى مجرد سياحة عابرة، بل تحولًا نفسيًا ثقافيًا عميقًا، يكشف عن انفصال مؤلم بين الإنسان السعودي وأرضه وهويته. وكأن السائح في الخارج لا يسافر فحسب، بل ينسلخ مؤقتًا عن ذاته، ويتقمّص شخصية سائح عالمي افتراضي، تُحرّكه تطبيقات السفر، وتوجّهه عدسات الهواتف، وتُملي عليه خطواته خوارزميات الاستعراض.
⸻
الطبيعة التي لا تتكلم لغتي
إن بحث الإنسان عن “الطبيعة” له ما يبرره: هروب من زحام المدينة، ضجيج السيارات، رتابة الروتين.
لكن ما لا يُغتفر، أن يتغاضى عن طبيعة بلاده الغنّاء، في سبيل مشهد أجنبي مهجّن.
في جنوب السعودية، على سبيل المثال، تسكننا الجبال والوديان والغابات الخضراء، ويشدو الغيل بماء عذب لا ينضب.
هناك، لا تحتاج إلى مترجم يشرح لك الجمال، لأن الطبيعة تتحدث بلهجتك، وتُشبه ملامحك، وتلبس اسمك، وتحمل نسبك.
رائحتها عشبية، مألوفة، من ذاكرة طفولتك، من جداتك، من مواسمكم الزراعية، من فصلكم الأول في المدرسة.
هناك، لا تنفصل الحواس، بل تنسجم وتذوب وتندمج في وحدة لا تتكرر: روحك ترى، وعينك تفكر، وأذنك تتنفس، وجسدك يتّسع للمكان.
السياحة في الوطن ليست “عزلة”، بل هي احتفاء بانسجامٍ لا يُشترى، ولا يُحجز من مواقع السفر.
⸻
السائح السعودي: مسافر أم مستعرِض؟
الواقع أن نسبة كبيرة من السعوديين المهووسين بالسفر الخارجي، لا يسافرون للمتعة ولا للاكتشاف.
إنهم يسافرون للاستعراض والتصوير والتباهي، لتغذية حضورهم الرقمي، ولتجديد ملفهم البصري على “القصص” اليومية.
هنا، ليست الرغبة حقيقية، بل مفروضة من لغة التكنولوجيا الحديثة، التي لا تترك مجالًا للخيارات الحرة.
السلطة الاجتماعية الجديدة، والتي تتحكم بها الصور والمنصات والإعلانات و”البلوقرز”، صارت تُحرك دوافع الناس وتُحدد اتجاهاتهم.
صار من “العار الاجتماعي” ألا تسافر، ألا تصور، ألا تنشر.
ومن ثم يتحول السفر إلى عبء نفساني، لا ترفيه.
وما يُسمى بـ”الاستجمام”، يصبح استنزافًا ماليًا، وفكريًا، ووجدانيًا.
⸻
الغربة الداخلية… التي لا تشفيها التذاكر
الخطير في الأمر، أن السائح السعودي في الخارج لا يشعر بالامتلاء… بل بالغربة.
يضحك، يلتقط الصور، لكنه من الداخل مشوّش، غريب، مشتت، يعيش بين لغات لا يفهمها، وملامح لا تعكسه، وأعراف لا تنتمي إليه.
في كل مطار ومقهى وحديقة ومول، يتكرر السؤال داخله: “ما الذي أفعله هنا؟ ولماذا؟”
ولو عاد وسأل نفسه بصدق:
هل ارتاح؟
هل تنفس؟
هل استمتع؟
لربما خجل من الجواب.
⸻
نحن لا نرفض السفر… بل نرفض الاستلاب
لا أحد يرفض السفر حين يكون تجربة إنسانية راقية، ووسيلة لاكتساب المعرفة.
لكننا هنا لا نتحدث عن هذا.
نحن نتحدث عن استلاب سياحي كامل، يُصيب الهوية، ويشوّه الذائقة، ويجعل من السفر طقسًا استعراضيًا لا يُغني ولا يُبهج.
⸻
في الختام:
السعادة لا تُحجز بتذكرة.
الانسجام لا يُشترى بفندق خمس نجوم.
والدهشة الحقيقية، لا تحتاج إلى ترجمة.
في بلادي ما يسعدني، لأن فيها ما يُشبهني.
وفي غابات الجنوب ما يعرّفني على نفسي لا على غروري.
وحين أسافر إلى نفسي في وديانها، لا أعود مغتربًا، بل عائدًا إلى البيت.


