هناك مجموعة من العوامل تظافرت لتزيد من معدل الجرائم والجنح منها ما هو اقتصادي ومنها اجتماعي ومنها فراغ تشريعي. وقد لوحظ تزايد اعداد المحكوم عليهم بالعقوبات السالبة للحرية لا سيما بعد صدور تشريعات كثيرة تعالج حالات ووقائع مستجدة, أو كانت موجودة وتحتاج معالجة تشريعية رادعة، مثل حماية المرافق العامة والآداب و الذوق العام والبيئة والتحرش والمعلوماتية. فأصبحت الوقائع و الإنحرافات في عالمنا الذي يزداد تعقيدًا ككرة الثلج، وأكتضت السجون بالمحكومين للتزايد الملحوظ في أعداد القضايا الجزائية. كما أن للنمو الاقتصادي الكبير في المملكة والعالم ,والتنوع في الأعمال التجارية غير التقليدية, كالتجارة الإلكترونية والمضاربات عبر أسواق المال دور كبير وعامل رئيس في تزايد أعداد الجرائم الاقتصادية؛ وبالتالي فإن العقوبات السالبة للحرية أصبحت غير قادرها لوحدها على الحد من الإنحرافات والجرائم.
وكان لزامًا دراسة هذا الأمر من جانبين:
الأول: أن للعقوبات السالبة للحرية سلبيات كبيرة على من يقضي محكوميه قصيرة عن جنح أو جرائم ليست خطيرة, مثل التفكك الأسري والتعود على أنماط إجرامية لم يعهدها وفقدان وظيفة أو خسارة تجارة والوصم بالعار وتأثيرات نفسية قد لا تندمل.
الثاني: أن بعض العقوبات البديلة على بعض الجرائم و الجنح قد تكون أكثر فاعلية ونجاعة في إصلاح وتقويم من تطبق بحقه، فهي تردعه وتقوّمه وتعلمه أيضًا إصلاح ما أفسده.
إلا أن أمر التطبيق ليس بهذه السهولة والبساطة فالجوانب الفنية والتشريعية لتطبيق العقوبات البديلة ليست جاهزة للتطبيق وتحتاج لعمل مسبق وجهد وإصدار تشريعات لنوع الجرائم والجنح التي تطبق عليها هذه العقوبات، وتحديد نوع الأفراد الصالحين لتطبيق هذه العقوبات على أساس الجنس (ذكر أو أنثى) والعمر (حدث أو مسن). والظروف الأخرى الأسرية والمالية...والخ، وكذلك ضرورة تهيئة جهات تنفيذية مخوّلة بتطبيق بدائل العقوبات السالبة للحرية؛لأن ذلك من معوقات التطبيق، وأيضا فإنه من الأهمية بمكان الفرز التشريعي لنوع الجرائم والجنح التي تعد صالحة لإيقاع العقوبات البديلة عليها (مثل مخالفات وجرائم المرافق والبيئة، وبعض القضايا السلوكية و الأخلاقية), وكما هو معمول به أيضًا في بعض الدول التي تقدمت في هذا المجال فإن الإلتزام بدورات تدريبية سلوكية أو حضور اجتماعات علاجات سلوكية لمدد معينة مطلب هام في مجال التقويم والإصلاح وتطوير الذات, ودمج الفرد كعضو صالح منتج في المجتمع، كما أنه يلزم التنويه أن المؤسسات الإصلاحية لدينا كثيرة إلا أن هذه المؤسسات ايضًا بحاجة لتطوير و إعادة هيكلة وتغيير أنماطها التقليدية. وبالتالي فإن من نافلة القول أن بعض المؤسسات الإصلاحية إذا دخلها الحدث أو الفتاة فقد يخرج منها بحالة أسوء نفسيًا وسلوكيًا.
ثم أن أي دراسة لبدائل العقوبات السالبة للحرية يجب أن تتضمن أيضًا التدابير الاحترازية و الواقية للحد من السلوك المنحرف, ولمنع الجريمة قبل وقوعها قدر المستطاع.
وهذا يتطلب تطوير قدرات رجال الضبط الإداري والجنائي لضمان أن تكون الإجراءات منسجمة مع النظام ولاسيما نظام الإجراءات الجزائية. ومن بين أوضح تطبيقات العقوبات البديلة في دول سبقتنا في هذا المجال هو تقديم الخدمات الإجتماعية كبديل للإيداع في السجن، لتوفير معاملة عقابية تنطوي على التأهيل والتهذيب والعلاج وتكون أقل ضررًا معنويًا وماديًا على المذنب وأسرته, وتعيد له الثقة بنفسه, وثقة المجتمع به, إضافة إلى إبعاده عن الأوساط الملوثة بخبرات إجرامية متنوعة داخل السجن، ومن إيجابياتها رفع قيم العمل لدى المحكوم عليه, وكذلك هي عقوبة تشتمل على إضافة إنتاجية أو خدمية كبيرة للمجتمع والدولة.
ولا يمنع – وبحسب الجريمة – أن توضع قيود على المحكوم عليه كوضع القاضي كوضع القاضي نطاق مكاني إحداثي لا يتجاوزه. أو يكون تحت مراقبة الشرطة لفترة معينة, وهو ملائم للمجرمين المبتدئين أو للجرائم غير المتعدية أضرارها.
وفي المملكة تطبيقات لمثل تلك العقوبات كتكليف المحكوم بحفظ القرآن الكريم أو أجزاء منه لإعفائه عن نصف المحكومية، وتطبيقات أخرى متعلقة بالحكم كتقديم خدمات إجتماعية ولكنها تظل حبيسة الإجتهادات القضائية غير الملزمة.
ولابد من التنويه إلى أن بدائل العقوبات السالبة للحرية يفضل أن تكون حسب نوع الجرم, فالمعتدي على البيئة عبر قطع الأشجار أو الاحتطاب الجائر قد تكون العقوبة المناسبة له أن يخدم في أعمال الإصلاح البيئي عدة أشهر, مع إلزامه بدورات تدريبية شرطا لتخفيف الغرامة أو إلغائها
وأجزم أن الآثار الإيجابية للعقوبات البديلة ستبين أثرها نفسيًا واجتماعيًا وسترفع مستوى قيم العمل والتطوع والإنتاج. وسوف تكون لنا عودة إن شاء الله للحديث عن أنواع الجرائم والجنح التي تتلائم مع العقوبات البديلة.
بقلم : المحامي المحكم والمستشار القانوني خالد عبدالعزيز اليحيى