يروي حماد بن سلمة في إحياء علوم الدين عن رجل باع عبدا وقال للمشتري : ما فيه عيب إلا النميمة . قال : رضيت فاشتراه فمكث الغلام أياما ثم قال : لزوجة مولاه إن سيدي لا يحبك وإنما يتسرى بك ، فخذي الموسى وقصي شعرات من رأسه فأسحره لك فيحبك ، ثم قال للزوج : إن امرأتك اتخذت خليلا ، وتريد أن تقتلك فتناوم لها ، فجاءت المرأة بالموس فظن أنها تريد قتله ، فقام إليها فقتلها ، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج ووقع القتال بين القبيلتين .
تستهوي النميمة بعضا من النفوس المريضة ويستهويها التحريش بين الناس ، هذه الشخصيات المضطربة وهذا السلوك الشيطاني المنحرف له أسبابه من حيث نشأة الفرد في بيئة تتهاون مع هذا السلوك ويتصدر أصحابه المجالس ويقتدى بهم فيجعله سلوكا مقبولا وطبيعيا ومحمودا في بيئة تردت فيها القيم شبيهة بهذه البيئة ، وتتنوع دوافع هذا السلوك بين الغيرة والحسد وصراع الأقران وكره الخير والسعي للانتقام وتلطيخ سمعة الضحية ، ويلعب الفراغ دورا هاما في ممارسة هذا السلوك من خلال تتبع عورات وزلات الآخرين وهتك سترهم .
لا يسلم مجتمع بشري من هذه الشخصيات المريضة ، فهي موجودة لا تتقيد بسن ولا مكان ولازمان ولا جنس ولا طبقة ، وإن كانت تغلب على فئة دون أخرى ،وبالملاحظة تلاحظ أنها ، بين الأغنياء أكثر من الفقراء ، وعند الأقران أكثر من غيرهم وعند بعض المتقدمين في العمر أكثر من الصغار والشباب ، وعند النساء أكثر من الرجال ، وعند بعض الفارغين أكثر من العاملين ،وتكون في بعض القرى أكثر من المدن بل قد يعزو بعض المهاجرين سبب رحيله من القرية تفشي آثارها وما سببته من شيوع للبغضاء والشحناء وفساد ذات البين في قريته .
ويظهر ذلك جليا من خلال العلاقات المدمرة ، فحين ترى صلات قد قطعت بين الإخوان والأخوال والأعمام وذي القربى والجيران والزملاء وحبال الود قد صرمت وأسوار المحبة دمرت وأصبحت النفوس على صفيح ساخن ، وحين تنظر في الوجوه فترى بغضاء بادية ، وعداوة ظاهرة ،وشحناء قد اشهبت المحيا وقل السلام وكثر الخصام ؛ فاعلم أن شيطانا رجيما قد نزغ بينهم ، وأن ثعابين سامة تدور بين منازلهم قد سممت تلك العلاقة ، ودمرت ما بقي من أطلالها .
هناك فرق بين النميمة والغيبة والتحذير المشروع ، فالنميمة تنفرد بأنها استهداف مقصود لإفساد وتخريب وقطع علاقة إنسانية قائمة وقطع لكل صلات بينها ،وإفساد لذات البين من خلال إثارة البغضاء والاتهام الباطل وتشويه السمعة للضحية . وهي تذكي العداوات وتجلب الخصام والنفور ، وتذكي نار الصراع وتوقظ الفتنة . قال ابن الجوزي رحمه الله (( النميمة تفسد الدين والدنيا ، وتغير القلوب ، وتولد البغضاء وسفك الدماء والشتات ))
تحدث العلماء عن خطرها وعقوبتها في الآخرة وحذروا من أخطارها على الدين والدنيا ، وبينوا خطر الفاسق المشاء بالنميمة بين الناس بقصد الإضرار وقد عالج القرآن الكريم هذه الآفة الاجتماعية من خلال أهمية التثبت من أقوال الوشاة والساعين بالنميمة بين الناس، ومن خلال مواجهة المجني عليه بأقوال الجاني في حضوره ، وهذا ما فعله بعض الحكماء لدرء هذه المفسدة العظيمة ، وصدق الله القائل في كتابه العزيز ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )