صدحت فيروز تنشد للرسول المصطفى وهي تحمل الديانة المسيحية وليست بحاجة للشهرة والإنتشار ولكن خضعت بصوتها الذي يبكيك قسرا عندما أنشدت لرسول الهدى والروضة فهزت الكيان .
كلمات أختارتها فيروز مما نظمه ابن جبير الشاعر الأندلسي في ديوان كامل عن السيرة النبوية بمناسبة زيارة الأراضي المقدسة وقبر الرسول الكريم ، فقد وصل ابن جبير إلى المدينة المنورة قادمًا من مكة المكرمة، يوم الاثنين المصادف للثالث من المحرم عام 579هـ عقب أدائه مناسك الحج فأختارت المطربة اللبنانية فيروز منه أبيات من شعره لحنها الرحبانيان ، وغنتها عام ١٩٥٣، تحت عنوان (الهجرة)، وأعادت فيروز تسجيلها عام ١٩٥٥، بعنوان "أقول وآنست بالليل نارا " وتعد هذه من الأعمال النادرة الغير معروفة.
لم تكن كلمات فيروز ولكن وقفت فيروز عندها ، فهمست بنغماتها من تلحين الأخوين رحباني، فصنعت بصوتها روعة ورغبة وحنين وعطف وشوق وأماني وإعتراف ضمني بفوز من استجار بالنص في رسول ينقذ أمته من النار بشفاعة أعطاها الله إياه ، كانت روعة اللحن وقبول الأداء يجعلك تسأل ويصيبك الشك هل فيروز مع زوجها الرحباني تخفي إسلامها بما صدحت به ليس عبورا بكلمات تحمل المعاني بقدر ما كانت آهات تنزع من داخلك الحنين ليحيط بك فتبكي حنينا وانت في المدينة وخارج المدينة وفي أقصى البلاد مثل بكاء الشوق عندما صدحت أم كلثوم في نشيد وُلد الهدى.
مسيحية بلغت شهرتها عنان الأفق تحت السماء تغني بحنين لرسول الهدى من كلمات سطرها ابن جبير فتعانق الحنين إعترافا بشجون تهتز به ومعه النفوس خشوعا ، فبماذا ترنمت بكلمات من شعر ابن جبير الأندلسي
(( جرى ذكرى طيبة ما بيننا فلا قلب في الركب إلا طارا... حنينا إلى أحمد المصطفى وشوقا يهيج الضلوع استِعارا )) وتحكي تجسيد الحضور لزوار مسجد المصطفى بكرم لا يزال موصولا بذكراهم للزيارة فتقول (( ولما حللنا فناء الرسول نزلنا باكرم خلق الجوار )) وتصدع بما قاله إبن جبير الأندلسي ويتكرر في زيارة المصطفى (( وقفنا بروضة دار السلم... نعيد السلام عليها مرارا )) وقفة متجسدة يشعر بها الزائر للمسجد النبوي فيحمل ذكراها أينما رحل ليقول إبن جبرين عن رحلة القدوم وتصدع به فيروز بكلماته عن السير في القفاري وركوب البحار (( إليك إليك نبي الهدى.... ركبنا البحار وجبنا القفارا ))
وتغرد بكلمات إبن جبير الأندلسي (( دعانا إليك هوى كامن... أثار من الشوق ما قد أثارا )) كلمات لمعان عميقة تحكي عن فطرة الإنسان حين ولادته مسلما على الفطرة ، فأثاره الشوق عندما تحرك شوقه ، ويزيد حنين الكلمة من صوتها عندما يبكي القلب في طلب الرجاء والشفاعة من رسول الهدى لتترنم قولا... (( عسى لحظة منك لي في غد... تمهد لي في الجنان القرارا ) كلمات كتب حروفها إبن جبير فترنمت بلحن الرحباني وانطلقت بصوت فيروز فتجسدت بشفاعة النبي في القول، تمهد لي في الجنان القرار، مسيحية تقول وتعي ما تقول.
وتختم فيروز بما اختارته من بعض الأبيات في تأكيد الحقيقة فتصدع بصوتها (( فما ضل من بسراك أهتدى... ولا ذُل من بذراك استجارا )) انه نهج نبوي لايُضل ولا يُذل من أهتدى به.
لم يعتب أو يلوم احد من المسيحيين على فيروز المسيحية المتصالحة مع نفسها وزوجها عاصي الرحباني أنها غنت للرسول من أبيات أختارتها من السيرة النبوية للشاعر الأندلسي ابن جبير الذي تأثر بحنينه بزيارة المسجد النبوي ، فغنت لرسول الهدى، ونطقت بما لامس فؤادها من الداخل فكانت مع الرحباني في قمة الخشوع مع هذه الكلمات، حقا إن أصحاب الدين والعقائد تتآلف قلوبهم مع المصالح المتبادلة والحياة العامة طالما لم يتجنى طرف على الآخر بعقيدته أو ظلمه أو هيمنته، فعندما تلقي السلام على هؤلاء الناس يردون عليك بنفس التحية دون أن تعرف أنهم من غير عقيدتك يعتنقون، فلا عداء متسلط في شتم الآخرين من مفهوم ضيق لأن رفع شعار البغضاء على غير الظالم هو صدي الصوت يرتد لصاحبه وعندها لن تنتهي الصراعات.
بقلم
طلال عبدالمحسن النزهة