غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعٍ
من طبع اليهود المكر والغدر والإفك والافتراء في كل زمان ومكان ، وهم أهل دجل وسحر وشعوذة ، وهم من أخبث البشر وأشدهم دهاء وكيدًا وحقدًا وعداوة للإسلام والمسلمين ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا .. (٨٢) سورة المائدة
وفي زمننا هذا ، كَثُرَ أهل النفاق الاعتقادي ، الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والشر ، وهم أشد خطرًا وفتكًا وتهديدًا على الأمة الإسلامية ؛ لأنهم يعيشون معنا ، ويستطيعون أن يطَّلِعوا على كل صغيرةٍ وكبيرة ، بعكس العدو المعروف .
والمنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، هو في الحقيقة ليس أخًا لنا نحن المسلمين ، وإنما هو أخٌ لما في باطنه ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ .. (١١) سورة الحشر
ففي هذه الآية بيَّن ووضَّح الله سبحانه وتعالى بأن المنافق الاعتقادي هو أخٌ للكافر .
لذا يجب علينا جميعًا أن نحذر أهل الكفر والنفاق ، وألا نثق فيهم أو نأمنهم أو نواليهم ؛ لأن في ذلك بلاء ومصيبة علينا ، وقد حذرنا المولى سبحانه وتعالى في قولِهِ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ .. (٥٧) سورة المائدة
لمَّا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب في العام الرابع عشر من البعثة ، وجد في المدينة المنورة اليهود ، الذين هم شتات الطرد والقتل والتشريد من معظم الأمم السابقة التي كانت تنبذهم ؛ لسوء أخلاقهم وغريب طباعهم ، وقد أثَّر هؤلاء على القبائل في الجزيرة العربية وتهوَّد البعض منهم ؛ لأنه كان يسود الجهل هُناك حينئذٍ .
وقد كان في المدينة قبائل يهودية متعددة ، منهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وبنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعور وبنو هدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة .
وعندما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة المنورة ، عقد معاهدةً مع يهود المدينة ، واشترط عليهم شروطًا توضح أن جميع سكان المدينة سواسية ، وأن الواجب على الجميع حمايتها والذود عنها ، وغير ذلك من الشروط ، وأن من ينكث أو ينقض العهد أو يخل بشرط ، فإنه يعرض نفسه للعقوبات .
وبعد انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على مشركي قريش في غزوة بدر ، أظهر اليهود الكيد والعداء للمسلمين ، ووقفوا ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وتحدوه وهددوه بالسحر والقتل .
كان يهود بني قينقاع من أشد القبائل اليهودية سخرية واستهزاء بالمسلمين ؛ لأنه كانت لديهم أموال كثيرة جعلتهم يتكبَّرون ويتغطرسون ويتعجرفون ، وقد كانوا أغنى قبائل اليهود في المدينة ، وكانوا يملكون تجارة الذهب والفضة والمجوهرات النفيسه .
استمر يهود بني قينقاع في بث الوشايات والمؤامرات ، وفي التواطؤ والتضامن مع مشركي قريش ؛ للقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، فقاموا بالإفساد والأذى العلني .
وقد تحمَّل الرسول صلى الله عليه وصحابته أذيتهم ومشاكلهم ، حتى قدًَرَ الله شيئًا يكون سبب في زوالهم وهلاكهم .
قدَّرُ اللهُ أن تذهب امرأةٌ من الأنصار إلى سوق الصَّاغةِ في حيِّ بني قينقاع ؛ لتشتري حُليًّا ، فدخلت إلى إحدى المحلات ، فشرع أراذل اليهود الذين كانوا يتتبعون نساء المسلمين إليها ، وقالوا للأنصارية : هلّا كشفت لنا عن وجهك ؟
رفضت تلك المرأة طلبهم ، وبينما هم ملتفون حولها وهي جالسة ، قام الصائغ بربط ثوبها إلى ظهرها من غير أن تحس ، فلما قامت انكشفت عورتها ، فظلوا محدقين بأعينهم إليها ، وجعلوا يضحكون عليها باستهزاء وسخرية وتهكُّم ، فصاحت بأعلى صوتها قائلة : يا مسلمون انقذوني ، ساعدوني ، خلصوني من اليهود ...
فسمع أحد الصحابة صوتها ، وذهب مسرعًا إلى المحلِّ وقال لها : ماذا حدث يا أختي ؟
فقالت : لقد هتك هذا اليهوديُّ ستري .
فوثب هذا الصحابي على اليهودي فقتله ، فتجمع اليهود عليه فقتلوه .
ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بالحدث ، جمع جيشًا من المهاجرين والأنصار ؛ نصرة لتلك الأنصارية والشهيد المدافع عن عرضها .
وفي اليوم الخامس عشر من شهر شوال في العام الثاني من الهجرة ، تحرك الجيش بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان حامل اللواء أسد الله حمزة بن المطلب رضي الله عنه .
وعندما علم يهود بني قينقاع بتوجه جيش المسلمين إليهم ، هربوا واختبؤوا في منازلهم وحصونهم ، وظلوا يقاتلون المسلمين خلف جدرهم المحصنة ؛ لأن من طبع اليهود هو الاحتراس والحيطة والخوف من المواجهة ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (١٤) سورة الحشر
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بحصار حي بني قينقاع حصارًا شديدًا ، دام خمسة عشر يومًا بلياليها ، وفشل اليهود في فك الحصار ، وخارت عزاءمهم ، وانكسرت شوكتهم ، وضاق عليهم الحال ، فاستسلموا ورضوا بأي شرط يفرضه الرسول صلى الله عليه وسلم .
وعندما أدرك حليفهم وكبيرهم ورئيسهم المنافق عبدالله بن أبي بن سلول أنهم هالكون ، قام بالشفاعة لهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته ، ولكنه أصر على ذلك ، حتى رضي بشرط خروجهم من المدينة سلبًا من غير رجعة .
خرج يهود بني قينقاع من المدينة تاركين كل أملاكهم ، من أموال وذهب ومجوهرات ، وغنم المسلمون كل ذلك ، فكانت تلك الغنائم دعمًا قويًّا لاقتصاد المسلمين ، ودارت الدائرة على يهود بني قينقاع ؛ حيث هلك معظمهم بينما هم يمشون في طريقهم متجهين إلى الشام .
بقلم أ. مهدي جدُّه حكمي
* المراجع :
- تاريخ الإسلام للذهبي .
- السيرة النبوية لابن هشام .
- الطبقات الكبرى لابن سعد .
- الكامل في التاريخ لابن الأثير .
- غزوة بني قينقاع د/راغب السرجاني