*اليوم الثالث*
*الإحرام من الميقات*
ذكرنا في اليوم الثاني نزولَ النبي صلى الله عليه
وسلم بميقات ذي الحليفة يوم السبت، وبه بات حتى أصبح؛ كما روى أَنَس: "أن النَّبِيَّ ﷺ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ"
*مستحبات الإحرام*
وفي هذا اليوم تهيَّأ النبي صلى الله عليه وسلم للإحرام:
١-فأغتسل:
فعن زيد بن ثابت: "أنَّهُ رأى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ تجرَّدَ لإِهلالِهِ واغتسلَ"
رواه الترمذي( ٨٣٠) وقال: هذا حديث حسن غريب.
٢-و أما إزاره ورِداءه ، فكان قد لَبِسَهما وهو بالمدينة؛ كما روى ابنُ عباس قال: "انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ"
٣-ولبَّد رأسه:
كما روى ابن عمر قال: "سمعت رسول الله ﷺ يُهلُّ مُلبِّدا".
والتلبيد؛ وضع شيء؛ كالصَّمْغ، ونحوه على شعر الرأس الكثير؛ ليلصق بعضه ببعض، ولا ينتشر؛ كي لا يدخل فيه الغبار والحشرات، وذلك بسبب طول مدة الإحرام.
وقوله يهلُّ؛ من الإهلال، وهو رفعُ الصوت بالتلبية عند الإحرام.
وعن ابن عمر: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لبَّد رأسه بالعسل" رواه أبو داود.
روي بالعسل بالعين، وروي بالغِسْل بالغين، والغِسل ما يُغسل به الرأس من خَطْمي وغيره؛ كما قال ابن القيم في زاد المعاد.(٢٨٤، ط، دار الكتاب العربي)
٤-وتطيَّب:
لحديث عائشة قالت: "كُنْتُ أُطيِّبُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لإحرامِه قبْلَ أنْ يُحرِمَ ولحِلِّه قبْلَ أنْ يطوفَ بالبيتِ" رواه البخاري ومسلم.
بيان ما يلبس المحرم
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ما يلبس المُحرِم، فقال: "وليُحرِمْ أحدُكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلَيْن" رواه الإمام أحمد (٤٦٦٤) وصححه الألباني في الإرواء(١٠٩٦)
*وبين ما يجتنبه المحرم:
فعَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: سأل رجل رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، فقال: ما يَلبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فقال:" لا يَلْبَسِ القميصَ، ولا السَّراويلَ، ولا البُرْنُسَ، ولا ثوبًا مَسَّه الزَّعفرانُ، ولا وَرْسٌ، فمَن لم يجِدِ النَّعْلينِ فلْيَلْبَسِ الخُفَّينِ"
*فذكر في الحديث جملة من محظورات الإحرام، وهي:
١- لبس المَخيط، وهي الثياب المفصلة على مقاس البدن، وأشار إليه بقوله: "لا يَلْبَسِ القميصَ، ولا السَّراويلَ" وهكذا نحوها.
٢-تغطية الرأس، وأشار إليه بقوله: "ولا البُرْنُسَ" وهو غطاء يلبس على الرأس، ونحو البرنس كل ما يُغطى به الرأس.
٣-استعمال الطيب بعد الإحرام، وأشار إليه بقوله: "ولا ثوبًا مَسَّه الزَّعفرانُ"، واعتبر الفقهاءُ الزعفرانَ نوعا من الطيب، ومثله كل طيبٍ يَتطيَّب به الإنسان.
٤-وبين نوعا آخر من محظورات الإحرام، وهو عقد النكاح؛ كما ورد َعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وستأتي بقية المحظورات في موضعها من سياق حجته.
*الإحرام بالنُّسك*
وفي هذا اليوم الأحد صلَّى النبيُّ عليه الصلاة السلام الظهرَ بالميقات.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَّتَ الدَّمَ عَنْهَا، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ
*وبعد ذلك ركب راحلته، وأحرم بالحج.
عن ابن عمر قال:" أهلَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حين اسْتوت به راحلتُه قائمةً" رواه البخاري(١٥٥٢) ومسلم (١١٨٧)
وعن نافعٍ قال: "كان ابنُ عمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا أراد الخروجَ إلى مَكَّةَ ادَّهَنَ بدُهْنٍ، ليس له رائحةٌ طَيِّبةٌ، ثم يأتي مسجِدَ ذي الحُلَيفةِ، فيُصَلِّي ثم يركَبُ، وإذا استوت به راحِلَتُه قائمةً أحرَمَ، ثم قال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يفعَلُ" رواه البخاري(١٥٥٤)
*و أحرام بالحج والعمرة، كما روى عُمَرُ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: "أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي عزَّ وجَلَّ، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ"
وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: "سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُلَبِّي بالحَجِّ والعُمْرَةِ جميعًا"
أي كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا بين الحج والعمرة؛ كما قال الإمام أحمد وجمهور المحدِّثين، وذلك لأنه ساق الهدي.
* وخيَّر أصحابه بين أنساك الحج الثلاثة، وهي التَّمتع والإفراد والقِران.
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، فقال: "مَن أرادَ منكم أن يُهِلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ، فلْيَفْعَلْ، ومن أراد أن يُهِلَّ بحَجٍّ فلْيُهِلَّ، ومن أراد أن يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فلْيُهِلَّ"
رواه البخاري (١٧٨٦)، ومسلم (١٢١١)
واختار أكثرهم الإفراد.
*ثم لَبَّى، فقال: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ، لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ.
عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ، لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ" رواه البخاري(١٥٤٩)
*قصة شٌبْرُمة*
عن ابن عباس قال إن النبي صلى الله عليه وسلم:
سمعَ رجلًا يقولُ: لبَّيكَ عن شُبرمةَ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ مَن شُبرمةُ قالَ قريبٌ لي قالَ: هل حجَجتَ قطُّ؟ قالَ: لا قالَ: فاجعَل هذِهِ عَن نَفسِكَ ثمَّ حُجَّ عن شُبرمةَ" رواه أبو داود (١٥٤٦) وصححه الألباني في المشكاة (٢٥٢٩)
ويؤخذ من هذه الواقعة ما يلي:
١-جواز النِّيابةِ في الحج.
٣-وجوب النيابة في الحج عمّن يعجزُ عنه ببدنه.
٣-يُشترط في النائب؛ أن يكون قد حج نفسه.
*قصة ضباعة*
دَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ علَى ضُبَاعَةَ بنْتِ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أُرِيدُ الحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي" رواه البخاري ومسلم.
ويؤخذ من هذه الواقعة؛ جواز الاشتراط عند الإحرام، وبه أخذ الحنابلة والشافعية، ومنع منه الحنفية والمالكية؛ لأن هذا خاص بضباعة، وتوسط آخرون فقالوا: لا يجوز الاشتراط ألا لمن يخشى مرضا أو عائقا؛ لقول ضباعة:" إنِّي أُرِيدُ الحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ".
*وفائدةُ الاشتراطِ: أنَّه إذا حُبِسَ عن النُّسُك بعُذْرٍ؛ فإنَّه يَحِلُّ منه، وليس عليه هَدْيٌ ولا صَوْمٌ، ولا قضاءٌ، ولا غيره.
*سَوْق الهَدْي*
ثم أمر النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم بسوْق الهَدْي، وهو ما يُهدى إلى البيت من بهيمة الأنعام تقربا إلى الله.
ففي الصحيحين عن ابن عمر، قال: "تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوداع بالعُمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهَدْىَ مِن ذي الحُليفة" رواه البخاري (١٦٩٢) ومسلم(١٢٢٧)
وكان هَدْيُه من الإبل، وقبل سَوْق الهدي دعا ببدنة منه، فأشعرها وقلَّدها، كما روى ابن عباس قال: صلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الظهرَ بذِي الحُلَيفَةِ، ثم دعا ببدنةٍ، فأَشْعَرَها من صفحةَ سِنامِها الأيمنِ، ثم سَلَتَ الدمَ عنها وقلَّدَها بنَعلينِ" رواه مسلم (١٢٤٣) و أبو داود (١٧٥٢) واللفظ له.
والإشعار هو: وضع علامة تدل أنها هدْيٌ، فلا يتعرض لها أحد، ويكون بِجَرْحِها في جانب سنامها الأيمن، وكذلك التقليد تُعلَّق في رقبتها النعال.
*ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها نحو مكة، تحيط به الجموع الغفيرة من الصحابة، ما بين راكب وماشٍ.
؛قال جابر رضي الله عنه:" ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ، حَتَّى إِذَا استَوَت بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى البَيدَاءِ نَظَرتُ إِلى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيهِ مِن رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَن يَمِينِهِ مِثل ذَلِكَ، وَعَن يَسَارِهِ مِثل ذَلِكَ، وَمِن خَلفِهِ مِثل ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ بَينَ أَظهُرِنَا" رواه مسلم.
ويؤخذ من هذا حجُّ بعض الصحابة مشْياً؛ طاعة لربهم وحبا لنبيهم، وإلا فالحج لا يجب إلا على المستطيع؛ كما في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ }
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة.
بقلم/ العابد سبعي.
٢٩ من ذي القعدة ١٤٤٢ للهجرة.
التعليقات 1
1 ping
ابو عبدالله الهريري
2021-07-12 في 12:32 ص[3] رابط التعليق
فتح الله عليك يا شيخنا الفاضل ونفع الله بعلمك العباد وجزاك الله خير الجزاء