هطَلت الأمطارُ، واستبْشرُ الناسُ، وفرحوا بالمطر؛ لأن به تخضرُّ الأرضُ، ويلْطُفُ الجوّ، ويخرج الناس للتنزُّه، والترويح عن النفس، ومشاهدة الطبيعة الخلابة، هذا هو فرح الناس الآن بالمطر.
بينما كان الناس في الزمن الماضي، يفرحون بالمطر؛ لأنه سبب حياتهم، وقِوام معاشهم، لذلك كان فرُحهم به أشدّ، وسعادتهم به أعظم، وإذا وَمَض البرقُ، أو هَزَم الرعدُ، استبشروا وفرحوا، وأخَذَهم الطَّرب، فجعلوا يَتَصايحون "آلَا وآلَا بيييش" "آلا وآلا دَهْوااان". (١)
وإذا نزل المطر، وسالت الأودية، خرجوا صغارا وكبارا، نساء ورجالا، مرحبين مهللين، نِساؤُهم تُعَطْرِفْ (٢) ورِجالُهم تِوَلِّشْ (٣) "آلا وآلا باحراااه، آلا وآلا باحراااه" وهي جملة المراد بها؛ أن تصل السيول البحر؛ لأن ذلك دلالة على كثرتها،
وإذا قلّ نزول الأمطار أو انقطعت، أمْحَلت الأرضُ وأجْدبت، وأصاب الناس الجوع؛ لأن اعتمادهم كان على ما يُزرع من الحبوب؛ كالذرة والدخن؛ لذا كان فرحُهم أشد من فرحنا، فقد كانت تحصل بسبب القحط، سنواتُ مََجاعةٍ، مرّت ومضت؛ لكنها لم تزل محفورةً في الذاكرة، يرويها الأجداد للأحفاد، ويؤرخون بها، ومنها سَنة كُشْمَة، التي حصلت في ثلاثينات القرن الرابع عشر الهجري، (١٣٣٣) في منطقة جازان، قبل العهد السعودي المبارك، وكانت سنةً مُهْلِكة هلَك بسببها كثيرٌ من الناس؛ بسبب انقطاع المطر لبضع سنوات، وأصاب ضررُها المناطق المجاور؛ كعسير ونجران؛ لاعتمادهم على الحبوب التي تُصدّر لهم من منطقة جازان، وسُميت سنة كُشْمَة، من قولهم "ما حصَّلنا ولا كُشْمة" أي قطعة من خبز الذرة، وكُشْمة مأخوذة من كلمة "كَشَم" وهي لغة فُصحى، ومعناها القَضم، والقضم يكون للأكل الذي فيه صَلابَة؛ كالتفاح والجزر، وخبز الذرة المعمول على الطريقة الجازانية، والذي يُسمى قرص "الخمير" فيه قَسَاوة؛ لذلك قيل للقطعة منه" كُشْمة" وبعد القحط الشديد، الذي حصل في سنة كُشْمَة، أتت سنواتُ خِصْب وخير، كثرت فيها الأمطار، سماها الناس "خَريف الرِّدِّة" استمر نزول المطر، لبضع سنوات متتابعة.
ويذكر لنا التاريخُ سنواتٍ عِدَّة، حصلت فيها مجاعاتٌ، بسبب انقطاع الأمطار، أو قلتها، من أشهرها سنة "أمّ العظِام" التي وقعت عام ٩٧٣ للهجرة، سميت بذلك؛ لأن الناس من شدة الجوع، دقُّوا عظام الميْتة وسَفُّوها، بل وأكلوا الميْتات (٤) وهي التي قيلت فيها تلك القصيدة الخالدة:
إن مسّنا الضرّ أو ضاقت بنا الحيلُ فلن يخيب لنا في ربنا أملُ وهي للشيخ محمد بن عمر الضمدي.
وهناك سنواتٌ أخرى ذاقَ فيها الناس الجوع، ومسّهم الضر، وهي مذكورة مسطورة، في كتب التاريخ، ومنها:
سنة "لكّة" عام "١١٧١" ، وسنة "حنون" عام "١١٧٧" ذُكرت في العقيق اليماني" للمؤرخ الجازاني المشهور "النعمان" وآخر تلك السنوات العجاف، سنة "أم الرُّز" أو سنة "رُزّة"التي وقعت أوائل سبعينات القرن الماضي (١٣٧٣)
وفيها أكل الناس؛ جُثث الميتات؛ كما روى ذلك أحدُ المعاصرين لتلك السنة، قائلاً: "ولا أزالُ أذكرُ الناس، وهم يستخرجون جُثث الحيوانات، من وادي بيش، ويأكلونها" (٥) ولكنها حصلت في العهد السعودي الميمون، فأمر الملك سعود بإغاثة الناس بأرُزٍّ مُستوْرد، يُسمى "أبو هُورة" ولذلك سميت بسنة"أم الرُّز"، وهي أولُ مرة يأكل الناسُ فيها الأرز في منطقة جازان، وتسمى كذلك سنة، "الثُّماني" بسبب غلاء سعر الذرة، والثماني هو ثُمن الصاع، وهو أصغر وِحْدة كَيْل.
ونحن نذكرُ تلك السنواتِ العِجاف؛ لِنشكرَ الله تعالى، على نعمته العظيمة، فقد ينقطع الآن المطر، ويصيب الأرضَ جدْبٌ وقحط، ولا يتأثر الناسُ بشيء، بفضل الله، ثم
، بفضلِ هذه الدولة المباركة، التي وفّرت وهيّأت جميع أسباب المعيشة، ووسائل الحياة الكريمة.
أرأيتم الفرق بين فرِحنا بالمطر، وبين فرَح أجدادنا.
------
بقلم/ العابد سبعي.
١٥ من ذي الحجة ١٤٤٢ للهجرة.
-------
١-أي تزغرد.
٢- يردد الأهازيج.
٣-بيش هو الوادي العظيم المعروف، ودهوان، وادٍ جنوب العارضة،من روافد وادي خُلب.
٤- العقيق اليماني، للنعمان (٢/٢٤٢،مخطوط)
٥- السِّمْط الحاوي، للشيخ علي بن سليمان الفيفي. (ص/٧٣،ط/١، ١٤١٠