" رَوًّحْنا مِن امْسَعْدِيَة، لا بُنْدُق ولا جَنْبِيَة " على وقْعِ هذا النشيد الحماسي، والذي يزداد حماسا وطربا؛ كلما رددته جموع الحجيج العائدة إلى منطقة جازان، يعلو مُحيّاهم الفرح والسرور، والرضا والحبور؛ بإتمام مناسك الحج، بأمن وسلام، ويسر واطمئنان، ويزداد الفرح والاستبشار؛ كلما اقتربوا من الديار، "روحنا من امسعدية، لا بندق ولاجنبية"، يرددونها شكرا لله على أنّ رجوعهم كان من حج وطاعة، لا من غَزْو وحرب، ونهب وسلب، كما اعتادوا عليه في حياتهم، زمن الفوضى والجهل، وانعدام النظام والأمن، في الأيام الخوالي، قبل حكم عبدالعزيز الملك العادل المثالي.
فإذا رجعوا من مكة، استراحوا في السعدية، وكانت من المحطات التي ينزل بها الحجاج للراحة، فإذا انطلقوا عائدين، قالو: "روحنا من امْسعْدية، لا بندق ولا جَنْبية"، وامسعدية هو ميقات السَّعدية، ميقات أهل الجنوب واليمن، وهذا الميقات وقَّته النبي ﷺ وكان اسمه في عهده "يلملم" كما في الحديث:"وَقَّتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأهْلِ المَدِينَةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولِأَهْلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ"
ولكن اسم السًّعْدية طَغى على الاسم النبوي "يلملم" بسبب بِئْر حفرتها امرأةٌ في مكان الميقات، واسم المرأة فاطمة السَّعْدية، فنُسبت البئر للمرأة، فقيل للبئر "السعدية"، واشتهر الميقات بالسعدية، من نهاية القرن التاسع الهجري، حتى عام ١٤٠١ للهجرة، لمدة خمس مئة عام تقريبا، ثم عاد الاسم النبوي "يلملم" بعد أن هَجَر الناس الميقات القديم، الموجود في قرية "السعدية" بسبب إنشاء أول طريق اسفلتي، يربط منطقة الجنوب بمكة المكرمة، بدأ تنفيذه عام" ١٣٩٨" للهجرة، وكان التخطيط الهندسي للطريق، يقتضي انْحرافُه عن الميقات في قرية "السعدية" يميناً جِهة البحر، بحوالي عشرين كيلو مترا، وذلك تفادياً لجبال يلملم، التي ستعيقه لو مرَّ بالميقات القديم بقرية" السعدية"، وأصبح الناس يسلكون الطريق الاسفلتي الجديد، ويحرمون إذا حاذوا الميقات بقرية "السعدية"، ولا يذهبون للميقات القديم؛ لصعوبة الطريق ووعورته، وكنت أنا"كاتب المقال" قد أحرمت من حيث يحرم الناس على الطريق الاسفلتي بحذاء الميقات بقرية "السعدية" وذلك في شهر محرم عام ١٤٠١ للهجرة، في ضمن رحلة لأداء العمرة، قام بها مركزٌ صيفي، ولم يكن بالمكان مسجد ولا دورات مياه، وإنما هناك خزانات ماء، يأخذ الشخص منها، ثم يذهب يغتسل خلف صفائح من الزنك، كانت موضوعة
هناك، وعندما أرادت وزارة الأوقاف والمساجد يومذاك، بناء مسجد ودورات مياه، للحجاج والزوار، كَوَّنت لجنة من أهل الفقه والعلم والتاريخ، والعارفين بتلك الجهات، لتحديد مكان للميقات على الطريق الاسفلتي، تيسيرا على الناس، فخرجت اللجنة للميقات على الطبيعة، وبعد النظر توصلت اللجنة، إلى
أن مُسمّى يلملم الذي، وقَّته النبيّ ﷺ لأهل اليمن، هو اسم لوادٍ فحْلٍ، ينزل من جبال الطائف الغربية، ويمتد إلى ساحل البحر الأحمر، ويصبُّ جنوب قرية المجيرمة، وأن الوادي يعترض كل الطرق، المؤدية إلى مكة المكرمة، وعليه فكل وادي يلملم هو مكان للإحرام، سواء أحرم الشخص من أعلاه أو من أسفله، وكذلك يجوز الإحرام من بداية الميقات، ومن وسطه ومن آخره؛ كما هو معلوم من كتب الفقهاء، وبناء على ما سبق رأت اللجنة، أن يكون الميقات الجديد على الطريق الاسفلتي، ويؤخر جنوبا بمقدار عشرين كيلو مترا، ليكون الإحرام من أول الميقات؛ لأن الإحرام من أول الميقات هو الأفضل؛ كما ذكر ذلك الفقهاء من باب الاحتياط، وبناء على رأي تلك اللجنة بَنَت وزارة الأوقات والمساجد، مسجدا كبيرا ودورات مياه، في الموقع الحالي لميقات "يلملم"، ووضعت لوحة كبيرة عليها اسم الميقات"يلملم" ورجع الاسم لما كان عليه في العهد النبوي، وهذا ما ينبغي فعله، وهو المحافظة على الأسماء التاريخية، لعراقتها وأصالتها، ولا سيما الأسماء الواردة في الأحاديث النبوية لبركتها، وإني أعجب من طُغيان الأسماء الدخيلة على مواقيت الحج؛ كما يقال السيل الكبير، بدلا من قرْن المنازل، ويقال: آبار علي، بدلا من ذي الحليفة، والأغرب هو استمرار الباحثين والمؤلفين، عند تعرضهم للمواقيت، على ترسيخ الأسماء المُحدثة، حتى بعد زوالها، وهجْرِها من الناس، ومع ذلك لا زالوا يتبادلونها في كتبهم، ومثال على ذلك ميقات يلملم، لا زال البعض يقولون في مؤلفاتهم: ميقات يلملم، ويعرف الآن بالسعدية، رغم أن اسم السعدية، تُرك منذ ما يزيد على أربعين عاما، وهذه المؤلفات بعد نقل الميقات من قرية السعدية.
وبالنسبة "للسعدية" هي الآن قرية عامرة، تقع شمال شرق ميقات يلملم، بحوالي عشرين كيلو مترا، وتتبع لمحافظة الليث.
بقلم
أ. العابد سبعي
١٢ من ذي الحجة ١٤٤٢ للهجرة.
-----
المراجع/
١-تيسير العلّام، لعبدالله البسام.
٢- بين مكة واليمن، لعاتق البلادي.
٣- تاريخ ميقات يلملم (مخطوط) لكاتب المقال.