كان النَّاسُ فِيما مَضَى في غَاراتٍ تَعْقُبُها مِن بعدِها ثارات، لا حُكْمَ يَمْنع، ولا عُقوبَةَ تَرْدَع، فالأمْنُ مَفْقود، والأَمْرُ غيرُ مَعْقود، فَهَجْمَةٌ وبَغْتَة، تَلِيها أُخرى مُرْتَدَّة، وهَكَذا الحَال، وهُم في سِجَال، وبَعْضُهم اعتادَ تَحْصيلَ قُوتِهِ، بِطَعْنِ رُمْحِهِ وضَرْبِ سيْفِهِ، فَوَقَعْت غَارَة، والنُّاسُ عنها غَارَّة، وكان في القومِ رجُلٌ فقيرٌ مُعْدَم، لا ربْحَ له ولا مَغْنَم، لا يَمْلكُ مالاً ولا مَتاعاً، ولا شاةً ولا جَمَلاً، وليس له سَبَدٌ ولا لَبَد (١) فنَجا بنَفْسِهِ، وهَرَبَ بِرُوحِهِ، فلا مالَ يُدافِعُ عنْه، ولا مَتاعَ يَنْدمُ عَلَيْه، وفي غارَةٍ أُخرى، غارَ المُغيرُ، وصاحَ النَّذيرُ، فَفُجِعَ الصَّغيرُ وذُعِرَ الكَبيرُ، وإِذا بالعَدُوِّ قدْ هَجَم، وبِشَرِّه قدْ حَطَم، وخلالَ الدِّيارِ جَاس، فَهَاجَ النَّاسُ ومَاجوا، وعلى أَمْوالِهم أَشْفَقوا وخافوا، وهُم بين وَاجِمٍ وذاهِل، وآخِذٍ لِسلاحِهِ وإِلى العَدُوِّ مائِل، يَدْفعُ الصَّائِل، ويُقاتِل الغَائِل، وقدِ اخْتلطَ الحابِلُ بالنّابِل، والعَدُوُّ بين المَواشِي يَحُوس، وخَلالَ الزُّروبِ يَجُوس، بَحْثاً عمَّا خفَّ حمْلُه، وغَصْباً لما سَهُلَ قِيَادُه، فلا تسْمعُ إِلا شاةً تَيْعَر، وبقرةً لها خُوَار، وجَملاً له رُغاء، وهذا الرَّجلُ الفقير، حالُه قدْ تَغيَّر، ومَتاعُهُ نَما وتَكَثَّر، وحلالُهُ في كُلِّ وادٍ تَنَثَّر،
فَوَقَفَ ذاهِلاً مذْعوراً، حائِراً بائِراً، يُقدِّمُ رِجْلاً ويُؤخِّر أُخرى، يَنظُر إلى مالِه يُنْهبْ، ومَتاعِهِ يُسْلَب، وأَنْعامِه تُساق، وأَمْوالِه تُبَاق، وهو لا يَمْلكُ حَوْلاً ولا طَوْلاً، ولا يَقْدِرُ أَنْ يَكِرَّ أَو يَفِرّ، فإِنْ حالَ دُونَ مالِهِ أَصابَتْهُ الصَّيْحَة، وإِنْ مَكَّن منه لازمتْه الحَسْرة، فدارَ الأَمرُ بِرَأْسِهِ وَلَفَّ، وضَرَب بِكَفٍّ على كَفّ، وقال: *ما أَحْسنَ الجوعَ مِن حِينٍ إِلى حين* فصارَ قولُهُ مَثَلاً سائِراً، وأَمْرُهُ خَبًراً ذائِعاً، فًتَمَنَّى الجوعَ عندَ فَقْدِ الأَمْنِ، وفَضَّلَ المُرَّ على المَنَّ، فما يَنْفعُ الغِنى والمَالُ ذاهِب، وكلٌّ مُتَرَبِّصٌ بهِ وناهِب، فالأَمْنُ بِهِ بَدَأَ اللهُ، والرِّزْقَ أَخَّرَهُ وثَنَّاهُ، في كِتابِهِ المَثانِي، ومَتْلُوِّهِ القُرْآنِ، فقال جلَّ من ربٍّ عظيمِ الشَّان، عَلى لِسَانِ أَبي الأَنْبِيَاء، عندما أَسْكَنَ أَهْلَهُ عندَ البَيْتِ وَبَاء،:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}،كان هذا في الزَّمَنِ البعيدِ، قَبْلَ الأَمْنِ والعَيْشِ الرَّغِيدِ، في العَهْدِ الزَّاهِرِ السُّعودي،
وكان قولُ القائِلِ فيما مضى،"وعِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى".
*ما أَحْسَنَ الجوعَ مِنْ حِينٍ إِلى حِينِ*، فهذا مَثَلٌ وقِصَّتُه صِنْوانِ، مَنْسوجَةٌ مِن التُّراثِ الجازاني.
-----‐-----------
١- هذا مثل معناه ليس له قليل ولا كثير.
كتبه
العابد سبعي