أدركت الناس يقولون في أحاديثهم، "حصل كذا في الجاهلية، وفلانٌ مات في الجاهلية"، وغير ذلك من الأحداث التي يربطونها بالجاهلية، ويؤرخون بها لأحداثٍ هي من عهدهم قريبة، وكنت أسمع لهم باستغراب، ففي ذهني أن الجاهلية هي الفترة التي سبقت مَبْعث النبي صلى الله عليه، وهي بعيدة عما يعنونه من أحداث، ثم علمتُ هذه الجاهلية التي يريدون وبها يؤرخون، فقد كانوا يقصدون بها فترة من تاريخ منطقة جازان مضت قبل توحيد المملكة العربية السعودية،
حيث كان الأمن مفقود، والأمر غير معقود، والخارج من بيته رُبَّما لا يعود، يحصل القتل لأدنى سبب، ولا يُعلم للمقتول ذنبٌ، ولا يظهر من القتل عَجَب، حتى أصبح الدمُ أهونَ من الرصاصة، بل ربما تَحَسَّر القاتل على ثمن الرصاصة، التى أزهقت روحا بريئة، وأحرمت من عائلها
أُسرة محتاجة.
وكانت منطقة جازان في هذه الفترة تحت حكم الدولة العثمانية، وكان حكمها حُكْما بلا فِعْل، ووجودها عُودٌ شاخصٌ بلا ظِلّ، حصروا اهتماهم بالموانئ وتركَّزوا في الشواطئ، ورمَوْا بالحبل على الغارب، فأخذ القبائلُ بالزِّمام وتعلَّق السفهاءُ بالخِطام، فكثرت الحروب والغارات، وعمَّ قطْعُ الطُّرُقِ والسرقات، واستُسهلت الأنفس وهانت الأموال، وأضحى الخوف هو الضارب والجوع هو الغالب، والثأْر هو الشغل الشاغل، بسبب الحروب بين القبائل. (١) "لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا"
ولما كان الجهل هو السائد، والسفيه هو القائد، توارى العلماء وانزوى الصلحاء، وتعلق الناس بالأضرحة والأولياء، وكاد نور العلم أن يُطْمَس، ومعالم الدين أن تُرْمَس.
"العلمُ نورٌ يهتدى بسنائه لولاه تاه الكون في ظلماتهِ"
وهذه الفترة كانت قبل عملية التوحيد المباركة التي قام فيها الملك عبدالعزيز بِنَظْم مناطق المملكة في سِلك قوي وعِقد بَهيّ، ومنها منطقة
جازان التي حلَّت مِن قَلْبِه بمكان، فأشرق عليها بشمسه، وأظلها بكرمه وفضله، وساسَها بقسطه وعدله، فبسط الأمن وأرسى العدل، وأصبح الواحد "لا يخاف إلا اللهَ و الذئبَ على غنمه" (٢)
وإذْ تحلُّ بنا ذكرى اليوم الوطني في عامه الواحد والتسعين هذه الذكرى العزيزة.
"وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي
إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ" (٣)
فحقٌّ علينا أن نُتابِع الحمد أضعافا والشكر أمثالا، لله جلَّ في عليائه وتقدَّس في أسمائه وتعالى في صفاته، أن سخَّر وهيأ الملك عبدالعزيز، الإمام الراشد والملك القائد، والسياسي المحنك "والجُذَيْل المُحَكَّك"(٤) صقر الجزيرة بل أسد الجزيرة، فوحَّد البلاد وأَمّن العباد، وحكم بالشريعة من كتابٍ وسنة، فلله الحمد والمِنَّة.
وفي هذه الذكرى نجدد العهد والولاء لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده القوي الأمين محمد بن سلمان.
--------
١-قد أوضح المؤرخ العقيلي هذه الفترة، وذكر أسباب الحروب وما قيل بسببها من أشعار في كتابه الأدب الشعبي في منطقة جازان.
٢- جزء من حديث روه البخاري (6943)، وهو كناية عن بسط الأمن.
٣- من قصيدة لأحمد شوقي يقول في مطلعها
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ
وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
٤-هذا جزء من مثل وهو "أنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُها المُرَجَّبُ" وهو قول الْحُبَاب بن المنذِر بن الْجَمُوح الأنصاريّ، قاله يوم السَّقيفة عند بَيْعة أبي بكر، يريد أنه رجل يُسْتَشْفَي برأيه وعَقْله.
-----
كتبه/ العابد سبعي.
بمناسبة اليوم الوطني( ٩١)