الحقيقية التي يعرفها الجميع ولا يريد أحد منا أن يعترف بها، وهي أننا نفسر كلام وأفعال الآخرين على ما نحب نحن، وإن كان ذلك التفسير بعيداً عن الواقع.
إن الكثير منا يبدع إلى حد كبير في التأويل والاستنتاج عند استقباله لرسائل الآخرين. وأقصد هنا بالرسائل كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال ورموز وإيماءات ولغة جسد.
والعجيب أننا نعطل خاصية الاستفسار والسؤال عمَّ أشكل من فعل أو قول، من الأشخاص الذين صدرت منهم ذلك، سواء في أحاديثهم الموجهة إلينا بشكل مباشر أو غير مباشر، رغم أنها في الأصل لم تكن موجهة ألينا، لا بطريقة ولا بأخرى، وظننا ظن السوء بأن المقصود هو نحن، ودخلنا في غمار حرب مع نيات الأوادم وضمائرهم، دون وجه حق.
إن تلك التفسيرات الخاطئة، التي لم تأخذ منا جهداً مضنياَ لتأطيرها في البرواز الذي نريد أن تكون عليه، وبالشكل الذي اخترناه لها، ربما لموقف كان، أو لحدث عابر مربنا مع الطرف الآخر، فحورناه سلباً، حديثاً كان أو فعلاً... هي التي جعلت من هذا سبباً من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى القطيعة والفرقة بن الأقارب، والأزواج، وبين الأحباب والأصحاب، وقد طالت الفرقة ببعضهم لفترات طويلة وبعضها استمر إلى الابد ...
إن السؤال عن المقصد أو الفعل من المصدر نفسه، يقي من الوقوع في حديث النفس الآثم، والتفسيرات الخاطئة، التي تسبب تدمير العلاقات، وتمهد للظلم، وتعزز للكراهية بين البشر، ولو عُرف السبب منذ البداية لما كان كل ذلك كله.
وإن لم يستطع الشخص الاستفسار والتثبت من مصدر الفعل أو القول، فإنه في هذه الحالة يتحتم عليه أن يجد الأعذار وأن يلتمسها لصاحبه، حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فتثبت الحقيقة وينجلي الغيم.
قد لا يكون من السهل تكوين العلاقات الإنسانية بين البشر، لكن من الصعب أن يتم الحفاظ على تلك العلاقات لأطول مدة ممكنة، لأن تلك العلاقات تعتمد على العطاء والأخذ، من خلال الظن الحسن، وترك الشك الآثم بالطرف الآخر إن لم يكن عليه دليل قاطع دامغ، فإن فقدت كل تلك المقومات أو حتى جزء منها، أصبح هناك خلل في كفتي الميزان التي تحكم تلك العلاقات، ولهذا علينا أن نتريث قبل الحكم على الآخرين بإصدار أحكامنا الجائرة في حقهم، وأن ندع ظن السوء بأنهم يقصدون كذا، و بأن أحاديثهم وأفعالهم ترمز إلى كذا، وإنهم يتعمدون كذا وكذا دون دليل ولا برهان.
في كثير من الأحيان عندما نصدر تلك الأحكام الجائرة والمستعجلة على الآخرين، ثم نكتشف فيما بعد بأننا كنا خاطئين وبأنهم أبرياء، نجد بأنه قد فات الأوان، وأن العلاقة قد انكسر زجاجها وإن اعيد نظم تلك الأجزاء المكسورة بالذهب كما يفعل اليابانيون بآنيتهم حين تنكسر، لكن الكسر يبقى أثره فلا يمحوه العذر، ولا يخفيه مرور الوقت.
وفي المقابل علينا تجنب كل ما من شأنه أن يحتمل أكثر من تأويل، وأن نكون اكثر دقة في اختيار الأقوال والأفعال وحتى الرموز والإيماءات، حتى لا نهيئ المجال ليكون خصباً لتأويل المأولين، وبعيدا قدر الإمكان عن خوض الخائضين.
علينا أن نكون منصفين مع أنفسنا ومع الآخرين، والتريث قبل إصدار الأحكام على أُناسٍ أبرياء، والعناية بعلاقاتنا مع الآخرين، والترفق بقلوب البشر، وأفئدة الخلق، فكل شيء له بديل إلا الإنسان، فإنه حين يذهب لا يبدل ولا يعوض، ولا يعود لسابقه عهده.
كتبه الإعلامي
علي بن أحمد السحاري