هكذا ظلت القرية تدافع عن هدوئها ورملها وحجارة منازلها في وجه التحوّلات التي تفرضها الحياة عليهم وعلى إرثهم المكاني , بعد شهر من حادثة الخواجة والكهرباء عاد للقرية شاب في عمر الصباحات المزهوة بالوهج ،تبدو على ملامحه حياة تختلف عن الناس في القرية، فهو لا يشبه ألوانهم الحنطية المسكوة بسُمْرة الشمس , ملابسه نقية كالغيم ،حديثه هادئ وأمارات العلم تفيض في حُسن تعامله وأدبه الجم ،لكنه يرمق الأشياء بشيء من الدهشة والغرابة ،الناس عرفوه ولكنه لم يعرف أحداً منهم، فكل ما يعرفه أن هذه الأرض عاش فوق ترابها وبين أزاهيرها ورائحة حقولها أهلٌ له ،وأناس دماؤهم تجري في شرايينه ،فالشاب ابن لإحدى بنات العم جابر مؤذن القرية _ الذي مات قبل سنوات _ اسمه فيصل أمه تزوجت وعاشت في إحدى المدن ،ولد وعاش في بيئة غير التي عاش فيها جَده وولدت فيها أمه , تجوّل كثيراً في حقول القرية وبين حجارتها ،سرقته الخُطى باتجاه الزوايا اليانعة في حقول جده (جابر) وكأنه يرقب كل قطرة عَرَق انسكبت من جبين جده هنا , أمه حدّثته كثيراً عن أيام صباها في القرية وعن بيت جده ،والضحكات المنسلّة من شفاه النسوة في مساءات القرية , حين كُنّ يجتمعن فوق (ثمالة) لبيت غيثة ،فتطرق أحلامهن هدأة الليل وأحاديثهن تداعب أجنحتة لتعود تلك المساءات الحالمة دون شيء إلا من ابتسامات تلملم النسوة معها فناجين قهوتهن فينتهي المساء كعادته في كل يوم ليعود المكان خالياً منهن إلا من رائحة الشذاب والوزاب حين يبقى بعدهن متشبثاً بكل زوايا الأمكنة التي تعبرها أقدامهن . هكذا يتذكر فيصل حديث أمه وحديث النخل والصباح , هو الآن بدا أكثر التصاقاً بالقرية التي لم يعش فيها إلا من خلال ذكريات أمه وسنوات صباها في كَنَف جده ..
محمد الفقيه الشهري
كاتب وأديب
للتواصل:
تويتر: @mohmed_alshehre
سناب شات:alshehri22111
(هنا ينتهي النشر الإلكتروني للرواية, وبقية الفصول ستكون ورقياً, شكراً لمتابعتكم.)