من أعاجيب انقلاب الدنيا هذه القصة التي فيها من العبر الكثير..
كانَ في زمنِ الخلافَة الأمويّةِ في الأندلس وزيرٌ من كِبار الدولة، و سَادةِ القوم، اسمهُ الحاجبُ : جعفر بن عثمان المصحفي.
بلغ من السلطان والرئاسة مبلغاً عظيماً في النفوذ والمهابة والإدارة والقرب من الولاة، كما وصفه في "نفح الطيب" بقوله : "فإن هذا المصحفي بلغ من الجلالةِ والعظمِ والتحكمِ في الدولةِ -المدةَ المديدةَ- أمراً لا مزيدَ عليه، واللهُ وارثُ الأرضِ ومَن عليها، وهو خيرُ الوارثين".
ولكن قد وقعَ لحالهِ انقلابٌ فضيعٌ، في أواخر عمرهِ، لحقه معه إذلالٌ وحبسٌ ومصادرة، على يد أحد صغار أتباعه، وهو ابن أبي عامر المعافري، قال في وصف ذلك بعض علماء المغرب:
"من (أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها) قصةُ المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي"
والمعجب في الأمر؛ أن سببَ ما وقعَ له، فيما يروى عنهُ، دعوةُ مظلوم!
كما في تفاصيل القصة التي يرويها صاحب "روضة الأزهار، وبهجة النفوس ونزهة الأبصار" حيث قال:
ولما أمرَ المنصورُ بن أبي عامرٍ بسجن المصحفي بالمطبّق في الزهراء؛ ودّعَ أهلهُ و ودّعوهُ وداعَ الفرقةِ، وقالَ لهم:
"لستم ترونني بعدها حياً، فقد أتى وقتُ إجابةِ الدعوة، وما كنت أرتقبهُ منذ (أربعين سنة)!"
[ القصة ] :
قال: "وذلك أني شاركت في سجن رجلٍ في عهد الناصر، وما أطلقته إلا برؤيا رأيتها بأن قيل لي:
"أطلقْ فلاناً فقد أجيبتْ فيكَ دعوتهُ!"
فأطلقته وأحضرتُهُ، وسألته عن دعوتهِ علي؟
فقال: دعوتُ (على من شاركَ في أمري) أن يميتهُ الله في أضيقِ السجون!
فقلت: إنها قد أجيبت، فإني كنت ممن شارك في أمرهِ، وندمتُ حين لا ينفع الندم.
وقد تنقل المصحفيُّ بقيةَ حياتهِ بين السجن والمنفى، وربما أخذه الحاجبُ معهُ في بعض المغازي وهو مكبلٌ كالأسير، قال في "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" :
"وكان المنصور يذهبُ بهِ بعد نكبتهِ معه في غزواتهِ، حتى إنه حكى بعضهم أنه رأى الحاجب المصحفي في ليلةٍ نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعميةً على العدو الكافر، وهو ينفخ فحماً في كانونٍ صغيرٍ، ويخفيه تحت ثيابهِ، أو كما قال، فسبحان مديل الدول، لا إله إلا هو!"
محنةُ الوزير المصحفي استمرت معه الى آخر أيام حياته حيث مات في محبسهِ، ولم تُجدِ كتاباتهُ أواستعطافهُ لدى الحاجب أبي عامر شيئاً، حتى قال بعض المؤرخين: "حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنّه يصدر من مثله، حتى إنّه كتب إلى المنصور ابن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلّماً لأولاده!"
ولكن استخرجتْ هذه المعاناةُ من قريحتهِ الشعرية أدباً وحِكماً من جيّد الشعر الأندلسي، كقوله :
لا تأمنن من الزمانِ تقلباً
إنّ الزمان بأهله يتقلبُ
ولقد أراني، والليوث تخافني
وأخافني من بعد ذاك الثعلبُ
واذا أتت أعجوبةٌ فأصبر لها
فالدهر يأتي بالذي هو أعجب!
وقوله :
صبرتُ على الأيام لما تولّتِ
وألزمتُ نفسي صبرها فاستمرتِ
فوا عجباً للقلب؛ كيف اعترافهُ
وللنفسِ بعد العزّ؛ كيف استذلتِ
وما النفسُ الا حيثُ يجعلها الفتى
فإن طمعتْ تاقت؛ وإلا تسلتِ
بقلم/ عمر بن عبدالعزيز الشعشعي