قد يستغربُ البعضُ أن إسرائيلَ هو النبيُّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، وأبناءُ يعقوبَ هم بنو إسرائيل ، وكانوا يسكنون في أرضِ فلسطينَ ، متنقلين بين سهولها وجبالها وتلالها ، وكانوا يستقرُّون في المنطقة التي يكثر بها الكلأ ؛ لأنهم أهل ماشية ..
قال ابن جريج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية .
والكلُّ يعلمُ أنَّ أبناءَ يعقوبَ عدَدَهُم اثنا عشر كما ورد في القرآن الكريم ، قالَ اللهُ تعالى : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) سورة يوسف
ويُسَمّوْن بالأسباطِ ومن ذريتهم تكوَّن نسبُ بني إسرائيل .
وقد جاء ذِكْرُ يعقوبَ عليه السلام في القرآن الكريم عدةَ مراتٍ باسم يعقوب ، وجاء ذكرهُ باسم إسرائيلَ في موضعٍ واحد ، قالَ اللُه تعالى : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) سورة آل عمران
قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ ، قال ابن جريج والعوفي ، عن ابن عباس : كان إسرائيلُ وهو يعقوب عليه السلام ..
وقالَ الطبريُّ في تفسيره : حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعتُ أبا معاذٍ قال : أخبرنا عُبيد بن سليمان قال : سمعتُ الضحاكَ يقولُ في قولِهِ تعالى : ( إلَّا مَا حَرَّمَ إسرائيلُ على نفسِه ) إسرائيلُ هو يعقوبُ عليهِ السلام .
وكما لا يخفى على أحدٍ منَّا قصة يوسف عليه السلام ، التي تم تفصيلها في سورةِ يوسف ، وبعد أن جمعَ اللهُ أهلَهُ بهِ في مصرَ ، عاشوا هناك حُقْبَةً من الزمنِ ، وظلوا بها حتى بعد موت أبيهم يعقوب عليه السلام .
وبعدَ موتِ يوسفِ عليهِ السلام ، تناسلَ الأسباطُ وكثروا ، ورفضوا مصاهرةَ المصريين سواء بالتَزَوُّجٍ أو التزويج ، وعزلوا أنفسهم عنهم ، وتعاهدوا فيما بينهم أن يكون لكل سبطٍ نسله المعروف ؛ وذلك ليضمنوا الاحتفاظَ بنسبهم ؛ اعتزازًا به وتعاليًا على غيرهم ؛ وذلك لأنهم من ذرية الأنبياء والرسل .
وظلَّ الأسباطُ في مصرَ مدةَ ثلاثةَ قرونٍ أو تزيد ، حتى جاءَ الفراعنةُ ، فاستعبدوهم وقتَّلوا أبناءَهم واستحيوا نساءَهم فترة من الزمن ، فبعثَ اللهُ موسى عليه السلام ؛ لينقذهم من فرعون ويخرجهم من الظلمات إلى النور .
ولمَّا مَنَّ اللهُ سبحانه وتعالى على بني إسرائيلَ بموسى عليه السلام ، ونصرهم على فرعونَ وجنودِه بهلاكهم في البحر ، فإنهم لم يحمدوا الله على ذلك ، فآذوا موسى عليه السلام وعصوه ، وعادوا لكبريائهم وجبروتهم .
وقد توالت عليهم الآيات والعبر ، ومع هذا كانت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ولم تنفعهم الآيات والدروس والعظات ؛ فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
وكانوا أهلَ غدرِ وخداعٍ ونكث وكذب وغش وغلول مع موسى عليه السلام ، ومع من أتى بعده من الأنبياء والرسل .
ولمَّا أرسلَ إليهِم عيسى عليه السلام الذي كان آية باهرة لهم ، لم يعجبهم ذلك ، فأجمعوا على قتله ، ولكنَّ اللهَ عزًّ وجل نجَّاه منهم ، قالَ اللهُ تعالى : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ (١٥٧) سورة النساء
وبعدَ رفعِ عيسى عليه السلام ونزول العقوبات عليهم ، فإنهم لم يرتدعوا ولم يتعظوا ، واستمروا في تماديهم وطغيانهم وأخذوا يكيدون لأتباعه ، وظلوا يعيثون في الأرض فسادًا حتى كرهتهم الأمم والشعوب ، فكانوا كلما سكنوا أرضًا طُرِدوا وأُبْعِدوا وشُرِّدوا ، حتى تفرقوا في الشام ومصر والعراق وجزيرة العرب واليمن .
وقبلَ بعثةِ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون لكفار قريش : أنه سيأتي نبيٌّ اسمه أحمد ، وأنهم سوف يحاربون مع هذا النبي ، فلما ظهرَ الرسولُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم كذَّبوه واستهزؤوا به ، وآذوه وسحروه وهموا بقتله ، وألَّبوا عليه المشركين ، وبدؤوا يبثون سمومهم الداخلية ، وقد أسلم البعض منهم نقاقًا ؛ لكي ينقلوا الأخبار المزيفة والمفتراه إلى الشعوب .
وبعد أن طردَهُم الرسولُ صلى الله عليه وسلم من المدينةِ المنورة ، هلكَ معظمُهم وتشتت الباقي منهم في أنحاء الأرض ، ولم تقم لهم قائمةً حتى القرن الثامن عشر الميلادي .
وفي مطلعِ القرنِ الثامنِ عشر الميلادي ، تجمَّعَ الكثير من الوثنيين الذين تهوّدوا بتأثير اليهود المشردين ، فأطلق عليهم اليهود ؛ لأنهم كانوا مثلهم في الصفات ، مما يعني أن اليهودَ المحتلين الآن ؛ ليسوا هم اليهود المنتسبين ليعقوب عليه السلام .
بدأَ التخطيطُ الفعليُّ لإقامةِ دولةٍ يهوديةٍ بعد إصدار الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل كتابه الذي سماه (الدولة اليهودية Der Judenstaat) ، وقد نُشِرَ هذا الكتابُ في ١٤ فبراير ١٨٩٦م الموافق ١ رمضان ١٣١٣هـ ، وبعد عام عقد مؤتمر بال في سويسرا ، وجاء في خطاب افتتاح هذا المؤتمر : إنَّنا نضعُ حجرَ الأساسِ في بناء البيت الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية .
وظلَّ اليهودُ الوثنيون يجتمعون ويخططون عدةَ مراتٍ ، حتى صعدت نشوة المستعمرين ، فوجدوا أن بريطانيا هي التي تستطيع أن تحقق حلمهم ، فدبروا معها المؤامرة ، وأخذوا بذلك وعدًا من رئيس وزراء بريطانيا آثر جيمس بلفور ، وسمي وعد بلفور (Balfour Declaration) وكان ذلك في ٢ نوفمبر ١٩١٧م ، الموافق ١٨ محرم ١٣٣٦هـ ، وبعد ذلك أعلنت بريطانيا أنها ستمنح اليهود حق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين ، وأنها ستسعى جاهدة في تحقيق ذلك .
وبما أن معظم الدول العربية في ذلك الوقت كانت تحت الاستعمار ، فلم تتحرك أي جيوش عربية ، وكان هناك صوت واحد معارض لوعد بلفور ، هو صوت الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله ، وكان يرسل ولده الأمير فيصل لترأس القمم في الأمم المتحدة ؛ مبينًا وموضحَا معارضة السعودية لذلك .
بدأ الوثنيون الهجرة إلى فلسطين في الوقت الذي كانت فيه فلسطين تحت الاستعمار البريطاني ، واستطاعوا أن يكوّنوا دولة داخل دولة ، وكان الجيش البريطاني يقوم بحمايتهم ويدافع .
ظلت بريطانيا تقوم بحماية الوثنيين حتى عجزت ، ورأت أنها لن تستطيع الصمود فأحالت القضية إلى الأمم المتحدة .
قامت الأمم المتحدة برآسة أميركا باستلام الدور في المنطقة ، وأرسلت لجانها في فلسطين ، ثم قررت هذه اللجان تقسيم فلسطين بتخطيط يهودي وضغط أمريكي ، وتم تقسيم فلسطين في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ الموافق ١٦ محرم ١٣٦٧هـ .
وبعد أن تأكدت بريطانيا أن الزمام أصبح بيد الوثنيين اليهود ، وأنهم أصبحوا قادرين على حماية أنفسهم ، انسحبت بريطانيا من فلسطين ، وكان ذلك في مايو ١٩٤٨م .
وفي ١٤ مايو ١٩٤٨م الموافق ٦ رجب ١٣٦٧هـ ، أعلن اليهود قيام دولتهم التي اعترفت بها أمريكا وروسيا ، واستطاعت الدولة اليهودية أن تقوم على قدميها بمساعدات غربية ، وخاضت ضد العرب عدَّة حروب ، ولم تستطع العرب هزيمتهم ؛ لأن اليهود كانوا يملكون قوة وأسلحة متطورة .
ولم ينسَ التاريخُ وقوف السعودية في ذلك الوقت ، حيث قامت بدعم القضية الفلسطينية معنويًا وماديًا ، وشاركت بما تستطيع في الدفاع عن فلسطين ، وما زالت خيرُ معينٍ لهم إلى وقتنا هذا .
وقبلَ الختامِ ، نريدُ أن نعرف : هل ستعود القدس للمسلمين ؟
قالَ اللهُ تعالى : ( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨) سورة الإسراء
لا أريد أن أتعرض لتفسير عام في الآيات السابقة ، ولكن أريد الشاهد منها فقط ، هل هناك شاهد في الآيات يدل على أن القدس ستعود للمسلمين ؟
اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم : من هم ؟
فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجزري وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك . وقتل داود جالوت ولهذا قال : (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) .
ثم قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) أي : فعليها ، كما قال تعالى : ( من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها(٤٦) سورة فصلت .
وقوله : ( فإذا جاء وعد الآخرة ) أي : المرة الآخرة أي : إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم ( ليسوءوا وجوهكم ) أي : يهينوكم ويقهروكم ( وليدخلوا المسجد ) أي بيت المقدس ( كما دخلوه أول مرة ) أي : في التي جاسوا فيها خلال الديار ) وليتبروا أي : يدمروا ويخربوا .
وفي معني قوله تعالى : (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) ، قال ابن كثير :
(عسى ربكم أن يرحمكم ) أي : فيصرفهم عنكم ( وإن عدتم عدنا ) أي : متى عدتم إلى الإفساد عدنا ، إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ؛ ولهذا قال الله تعالى : ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا ) أي : مستقرًا ومحصرًا وسجنًا لا محيدَ لهم عنه .
وعنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه ، أنََ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ : ( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا اليَهُودَ ، حتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وراءَهُ اليَهُودِيُّ : يا مُسْلِمُ ، هذا يَهُودِيٌّ ورائِي فاقْتُلْهُ ) . رواه البخاري في صحيحه
وفي روايةٍ أُخرى : ( لا تقومُ الساعةُ حتى يقاتلَ المسلمون اليهودَ ، فيقتلُهم المسلمون ، حتى يختبيءَ اليهوديُّ من وراءِ الحجرِ و الشجرِ ، فيقولُ الحجرُ أو الشجرُ : يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ هذا يهوديٌّ خلفي ، فتعالَ فاقْتلْه . إلا الغَرْقَدَ ، فإنه من شجرِ اليهودِ ) . حديث صحيح
الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع .
وفيما سبق عرفنا أنه لن تقوم الساعة ، حتى يحدث حرب بين المسلمين واليهود ؛ وذلك عندما ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ، فيذهب المسلمون معه ، ويذهب اليهود مع الدجال ، وفي هذه الحرب يتعاون كل شيء مع المسلمين ، وتحدث معجزة نطق الشجر والحجر نطقا حقيقيًا لا شك فيه ، إلا شجر الغرقد فإنه لا ينطق ؛ لأنه من شجر اليهود .
وفي بلاد بيت المقدس ، ينتصر المسلمون بقيادة النبي عيسى عليه السلام ، وهناك يكون قتل الدجال واليهود ، ويدخل المسلمون بلاد المقدس ، ويصلون في المسجد الأقصى ، وبهذا تنتهي الدولة اليهودية .
أما في الوقت الراهن ، فلا أتوقع أن تعود أرض فلسطين بأكملها ، مهما حاول العرب والمسلمون ، ولكن قد تكون لهم دويلة مسالمة ومراقبة منزوعة السلاح .
والله أعلم .
بقلم أ. مهدي جدُّه حكمي
* المراجع :
- تفسير الطبري .
- تفسير ابن كثير .
- البداية والنهاية لابن كثير .
- إغاثة اللهفان لابن قيّم الجوزية .
- حقيقة اليهود لفؤاد بن سيد الرفاعي .
- شرح الطحاوية لخالد المصلح .
- تأملات قرآنية لصالح المغامسي .
- أرشيف منتدى الفصيح - مجموعة من المؤلفين .
- الموقع الرسمي للدر السنية .
التعليقات 3
3 pings
ابو يزن
2021-05-19 في 3:07 ص[3] رابط التعليق
كلام جميل جدا ..
(0)
(0)
أبو مالك
2021-05-19 في 2:02 م[3] رابط التعليق
جزاك الله خيرًا
(0)
(0)
د احمد حسن
2021-05-21 في 9:35 ص[3] رابط التعليق
ربنا يزيدك علم وتشريف.
(0)
(0)