بعد عصر اليوم سيجتمع الناس في أطراف القرية حيث موعد ختان حسن ولد أبي يحيى الحطّاب فالناس في تهامة لرتابة الحياة يجعلون لكل حدثٍ مَهْمَا صَغُر عذراً لإقامة حفلٍ كمواعيد الفرح في الأعراس .. ! حضر القوم يحتزمون (مسابتهم) ، ويلفّون عمائمهم فوق رؤوسهم ، ويتأبطون بنادقهم ، ينتظرون موعد انسكاب الدم ولحظة الختان كي يطلقوا رصاصاتهم إيذاناً بالفرح , هوى الخاتن على (حسن) ، فتمّ الخِتَانُ وهو في رباطة جأش وتماسُك، أقام الناس (الهَوْد) وهو اسم الاحتفاء الذي يُقام في مواعيد الفرح، فتمايل الناس رقصوا وغنّوا ،واصطف الرجال والنساء سواسية بجوار بعضهم، يرقصون ويتمايلون فهذا (يُزيّف) وآخر يحاول جذب أعين النسوة إليه فيرتفع ثم يسقط كالنسر والغبار تثيره أقدامٌ لا تعرف من الأحذية إلا (الطرمبيل) المرقّع فقد يموت الرجل والحذاء مازال صالحاً للحياة قرناً من الزمن ..! في الناحية الجنوبية من القرية رجالٌ يلتفّون حول قدورهم الضخمة المكسوة بالحمم السوداء كأنها قطيفة لا بياض يكسر سوادها ، فولائم العشاء عند الختان من موجبات اكتمال طوق الفرح آنذاك , صوت المؤذن لصلاة المغرب يلعلع في القرية فكان بمثابة الماء البارد الذي يلجم جمراً مستعراً , فتوارى الناس خلف مغيب شمسٍ شفقَها من أعلى القرية يشبه الحنّاء في كفيّ امرأة .. بعد الصلاة بظلامٍ قليل التمّ الناس على عشائهم ضحكوا وأكلوا ولأن الرتابة شيء مملّ في القُرى التهامية فعادة ما تظهر روح الدعابة دون استحياء كي تجفف الملل في آنيته قبل أن ينضح فتذوب معه ملامح الفرح , الصحن الذي يجلس عليه ظافر ومحْسِن وهذان الرجلان لم يفترقا منذ ثلاثين عاماً فإذا غضب أحدهما على الآخر لا تنطفئ شمس ذلك اليوم حتى يتصالحا , فكان بين الجالسيِن رجل يقال له عوّاض وهو نسّابة وشاعر مواويل وداهية فكثيراً ما يتندّر على الناس بشعره فيغضبهم ويهجوهم وإذا لم يجد أحداً يهجوه ويُعيّره هجا نفسه وعيّرها , قصّ لهم حكايته حين همّ بالسفر نحو المشاعر المقدسة لأداء فريضة الحج في سنةٍ من السنين يقول : ’’كنت مع ركْبٍ من أهل الحجاز_ السراة_، وكانوا لا يتحرّجون من الغريب فحين قطعنا الطريقَ نصفَه توقفنا قبل مكة بمسافة يومين فضاع مني (كَمَرٌ) لا أعرف أين سقط ولكنّي لم أجده فكل المال الذي جمعته من أجل الحج كان بداخله فضاقت بي الأرض بما رحُبَتْ ولم أخبر أحداً فقررت أن أعود مع العائدين الذين تلتقيهم قوافلنا في طريقها فلمحت أناساً أعرفهم من أهل الساحل يعملون في التجارة قد عادوا محمّلين بالبضائع , ففي شهر الحج تكثر التجارة فالحجاج القادمون يجلبون من بلدانهم بضائع وأشياء يبتاعونها في مكة فيكثر التجّار , فذاك موسمهم , فأخبرتُ أميرَ الركب بأنني سأعود مع القافلة العائدة باتجاه الساحل ومن هنالك ستلفّني خطى السير باتجاه تهامة , فانتاب الرجل غضباً شديداً وصاح في وجهي فمكةَ أصبحتْ على مرمى حجر , ولا يفصلنا عنها سوى ظلام ليلتين , حاولت أن أُقْنِعَ الرجلَ بالعودة وطلبته بأن يخبر بقية القوم بأن عوّاض التهامي سيعود , فشعوري بالوهن وإحساسي بالمرض يمنعاني من مواصلة السير نحو مكة , رغم أن هذا ليس ما يمنعني من مواصلة الطريق نحو الديار المقدسة , فمنهم من قَبِل بقراري ومنهم من امتعض لا لشيء ولكن لأن مسيرةَ شهرٍ من العناء والتعب ليس بالسهولة أن يقرر أحد العودة وهو على بُعد يومٍ أو يومين من أطهر بقاع الله ..
ولأن بعض أهل الحجاز كما قلتُ لكم لا يجدون حرجاً فيما يريدون قوله , أو حتى التحّرج من الغريب فكان من بين الركب رجل يتجاوز الخمسين قليلاً يبدو من ملامحه وصوته أنه صاحب حظوة أو نفوذ على القافلة ولم يكن يهمني أمره لكن صوتَه الغليظ الجش وحديثه المتواصل الذي لا ينقطع إلا للنوم أو الصلاة كان أمراً مزعجاً لي فكنتُ أتحاشاه وأتجنّب الحديثَ معه طوال رحلتنا , وحين سمع بخبر عودتي خاطبني بصوته الجشّ المتحشرج : (تعال يا التهامي نحطك في الخُرج ذيه ولا تنزل منه إلا إذا وصلنا بيت الله ), وقد كنت نحيفاً دقيق العظم ضعيف البنية فربما لو انزلقتُ في قدح ماء لاستوعبني, كان الرجل الجهوري يريد إضحاك الناس ولا شيء غير ذلك ،أما أنا فلم أدعِ الأمر يمرّ بسهولة فقد ساومته على أن أبيتَ في الخُرج مدة المسير على أن أتقاضى مالاً لقاء ذلك ،فضحك الناس وقهقه الرجل وكان لي ما أردت ، فقد قضيتُ ليلتين وأنا في وسط الخُرج لا أنزل منه إلا للصلاة حتى وصلنا مكة فنلت راحةً وكسبت ريالاً فرنسياً ..) ، قهقه الحاضرون وغصّ أبو يحيى من كثرة الضحك لم تسعفه إلا ضربة سقطت بين كتفيه كالصخرة من قبضة محسن كادت أن تزهق معها روحه .. (يتبع)
محمد الفقيه الشهري
كاتب وأديب
تويتر: @mohmed_alshehre
سناب شات:alshehri22111