بدا الصباح مثل غَيْرهِ من صباحات القرية ،يستيقظ الناس على صوت العم جابر مؤذن القرية، فمنذ ثلاثين عاماً وهو يحاورُ الفجرَ بصوته ،يحتضن بأبجديات الأذان الطين والحقول ،يمسح بصوته العتمة من بين النخيل وأكمام السنابل وطرقات القرية المعبأة ببساطة الحياة وهدوئها ،ليسافرَ في أقصى الضوء ليجلب السكينة والراحة عند آخر انسكابٍ لصوته السبعينيّ حين يختم الأذان بـ ’’ لا إله إلا الله ،، ،ظافر أحد سادة القرية وكبرائها يصحو لينفضَ الليلَ من على جبينه، يأخذ قدحاً من خشب (طُلي) بالقطران يَغْرِفُ الماء من (الكوز) المركون في زاوية بيته ،يتوضأ على ناصية الدار بجوار ريحانة تملأ الصباح بأناشيد المطر ،لتنقله من زفير الذاكرة إلى شرفات الحنين , بعد صلاة الفجر يَهبّ الناس نحو حياتهم الهاربة منهم , فعوّاضُ يتجه إلى (زربته) يفتح الحياة لأغنامه لتضرب بأظلافها العشب قبل أن تمطره الشمس بوابل من القيظ فيخفت الندى من أسرابه الخضراء , ومحسن يحزم خاصرته النحيلة بحبلٍ أزرق فيلملم (المحش) و(المسحاة) فمنذ سنوات هو هكذا لا تشرق شمس النهار إلا وقد عانق حقله بالمسحاة واللّومة , وأطفال القرية يركضون يفتشون عن أشجار السدر المكتنزة (بالنبق) فموسم تساقطه قد حان , والدخان المتصاعد من (موافي) القرية بات كبُقَع غيمٍ خجول تناثر فوق جبين صباح طازج , إنها الحياة الهاربة منهم الظامئة لخُطاهم وحنين الإشراق في مناغاة أصواتِهم للريح والصباح. فالحياة هنا تسير باختيارهم أو رغماً عنهم فالأمر لا يهمهم مطلقاً , فلغة العقل الأوحد لديهم أن هنالك حياة ولا شيء أكثر من ذلك .. أبو يحيى منذ أنْ بعثرَتِ الشمسُ ضوءها فوق الأودية والسهول ومشارب الحقول في القرية لم يضع يده فوق مسحاته , فمنذ نسمة الصباح الأول مازال جالساً بجوار (حُصنٍ عثمانيّ) كان في سنوات العهد العثماني يُعدُّ مخفرَ حراسةٍ لجنودِ الحاميةِ العثمانيةِ آنذاك .. وصل أبو يحيى إلى الحد الذي لا يمكن أن يخبئ خبراً كهذا , هو في حياته لم ينقل خبرَ موتِ أحد ولكن هذه المرّة كلّفته الأقدار أن يكون حامل الخبر ورسوله , فالموت هنا ليس لغريبٍ أو عابرِ سبيل الموت غيّب شاباً تملؤه الحياة عزيمة وقوة وشهامة إنه بكري فليس من حق أحد أن يتكتّم على موت أحد فالناس كلهم يمضون بمشيئة خالقهم ولا اعتراض لأقدار الله ومشيئته . توجّه أبو يحيى إلى العم ظافر فأخذه إلى جانب الحقل جلس الرجلان تحت شجرة سدر لم تترك لهما الشمس سوى بقعة ظل صغيرة , في بداية الأمر تلعثم أبو يحيى كثيراً لا يعرف من أين يقدح زناد الألم فتارة يتحدث ثم يصمت وتارة يتحايل على فاجعته فيتلكأ ليقاطعه ظافر : ،، يا أبو يحيى والله ما غرّني إن معاك علمن من يوم أقبلتني في هذي الشموس ,,
رد أبو يحيى والتلكؤ يملأ شفتيه لكنه لفّ ذراع الصمت فحدّثه : ,, عم ظافر تراني من أموعد اللي افلح وأنا في ضيمن ما يعلم به إلا الله.. جاني علمن .. ,, غلبه الصمت فأذعن لنشيج دمعة خنقته ..
العم ظافر لا ينتظر فهناك أمر جلل يخبئه صوت أبي يحيى ,, يا أبو يحيى مذا بك , وحّد الله,,
أبو يحيى بدا منهاراً فلا شيء يجعله مستسلماً لدائرة صمته ,, عم ظافر جاني علمن إن بكري مات ..,,
طأطأ العم ظافر رأسه وأطلق الشهادة لحنجرته وارتخت يده فسقطت المسحاة منها , التفت العم ظافر إلى أبي يحيى ,, من ذا قال لك امعلم ذيه يا أبو يحيى .. ,,
فمن حيث فاجعة الألم ونشيج البكاء وانسكاب الدمع فوق لحية أبي يحيى يلملم الرجل عزائمه ويسرد للعم ظافر حديث الموت الذي سيق له على لسان الرجل الربعيّ ..
محمد الفقيه الشهري
كاتب وأديب
للتواصل
تويتر: @mohmed_alshehre
سناب شات:alshehri22111
التعليقات 1
1 pings
صغير عسيري
2020-06-01 في 10:07 م[3] رابط التعليق
قصة قصيرة لا.تحكي واقع حلو رغم مرارته .لكن هؤلاء لم يألفوا الران ولا الران الفهم