هنالك في أروقة الغياب وعلى حد المسافة الفاصلة بين الحنين والاشتياق وتحت سقف الوجع لمرارة العودة إلى القرية وحيداً دون خاله . بدأ بكري يلاحق اللحظة التي يجتمع فيها بأهل القرية التي ما أبقوا رعاية إلا منحوه إياها ،فمرّ النهار إلى زوال الشمس هادئاً ،وكعادة القوم هنا يعودون إلى دورهم حيث الشمس ترخي بستائرها الحارقة باتجاه الأرض، فتهامة في مثل هذا الوقت تصبح الشمس فيها كتلة لهب تضرب كل شيء تمتد فوقه دونما رأفة أو شفقة . إنها أودية الظمأ وقرى الشمس في صيف يجاهر بحرائقه دون خجل . الناس هنا كغيرهم من أهل تهامة يلجأون إلى أفياء دورهم ،فلا شيء يقيهم هذه الشظايا الحارقة سوى ظل بيتٍ ينزوي تحته الناس حتى تبْرُد هذه الجائحة من الشموس . بعد عصر يوم قائظ يقف بكري بين الناس في مسجدهم الصغير فأركان هذا المسجد قد شهدت معاهدات قبلية و مصالحات أسرية و فض نزاعات وخلافات , كعادة المساجد في تهامة آنذاك . فالمسجد في تهامة كان جامعة ومدرسة ومجلس صلح وتراضٍ فلا شيء يحدث للناس إلا والمسجد كان حاضنة لهم بكل ما يدور في حياتهم . وقف بكري بينهم شاكراً حامداً لصنيعهم فأخبرهم بأنه سيغادر القرية ويحمل لهم امتناناً عظيماً فلا يعرف كيف يرد لهم هذا الجميل .. حاول القوم أن يثنوا بكري عن قراره ،فقد أحبوا الطيبة والنخوة التي تسكنه ،جعلتهم يتعلّقون في بقائه بينهم ،لكنه أصرّ على عودته فقد طال بقاؤه وهناك في قريته من يتلمّس عودته وحضوره وكذلك وفاة خاله مفرح فقد بات هنا بين موتاهم وفي أرضهم وتُربتهم فعودته وحيداً دونه هو جرح ينز بداخله .
قبل أن تتزاحم القرية بضوء الفجر وصياح (الديَكة) الظامئة للنهار هبّ رجلان من القرية يرافقان بكري , أخذت القافلة الصغيرة طريقها باتجاه السهول والأودية الشرقية من تهامة , فلم يصل النهار إلى حده القائظ حتى تجاوزت ناقة بكري المسافة الموحشة بين قرى ثربان وهضاب الحد الشرقي لتهامة , وبينما الشمس تجوب الأرض قادحة زناد القيظ توقفت القافلة فوّدع الرجلان بكري : ,, ودعنا الله فيك يا بكري هَبْ حسّك من امطريق وخلّ عينك على امذلول ,, ليرد بكري بصوت تملؤه النخوة والطيبة ,, حجب عليكم وانتوا هبوا حسكم من امطريق ودعت الله فيكم ,, كانت ملامح الوداع تطرق عيني بكري ورغائب الحنين تحاصر لحظاته فهناك وطن من الاشتياق يحمله إلى قريته وأهلها وغيثة المملوء بالحنين إليها ..
محمد الفقيه الشهري
كاتب وأديب
تويتر: @mohmed_alshehre
سناب شات:alshehri22111