بكري الذي عاد للحياة من أقصى الألم والجُرح باتَ الآنَ قادراً على الحركة والمشي وحتى الركض ، فبعد شهرين من التداوي والاغتسال بالماء المتفجر سخونة ودفئاً من قلب (العين الحارة) ، بات بمقدوره أن يحرث ويعمل ويشد وثاق الحطب ويسير بخطىً مملؤة شباباً وحيويةً ، فاليومَ وقبل أن تطل الشمس برأسها من خلف أكوام الجبال التهامية السمراء صَحِبَ رجالاً من القرية نحو حقولهم، فموسم حصاد الذرة قد أينع وحان قطافه فـسَبَل الذرة بات مخضرّاً يلفه بياضٌ كأجنحة الفَرَاش , وقبل أن تضرب الشمس بحممها نحو الأرض افترش القوم حصيراً تحت سدرة في زاوية حقلٍ (لمفتي) تُشَاكِسهم نسائم تهامية ترخي العذوبة فوق أبدانهم المتعبة , تناولوا كِسَراً من خبز الخمير والسمن ورائحة القِشر تسافر في صباح تهامة اليانع كقامة حسناء لا ترتجف أساورها .. بدا بكري كعادته يسمع أكثر مما يتكلم ،وحين يصمت الحديث يتلفّت في الحقول في ثيران القرية وأغنامها ، وحين يملؤه الحنين لقريته يتنهد دون أن يسمع أحد أنينه , مفتي كان آخر القادمين إلى السدرة التي يجتمع القوم تحت ظلها , كان الطين قد ارتسم فوق كفيه وذراعيه وهواء ناعم رقيق يلفح شعره المجدول بدا وكأنه قد عاد من معركة الطين والحياة .
رحّب به الجلساء: الله يحييك يا مفتي مذا تأخر بك اليوم ولا هي عادتك ..!
كان مفتي في سنوات عمره لا يتأخر كثيراً في حصاد زرعه أو حرث حقوله ولكن الزمن لا ينتظر أحداً فمعالم السن قد اتكأت فوق كفيه ووجهه ، فأصبح الآن لا يفرغ من الحرث والزرع إلا منتصف النهار وقد يطول به إلى شفق المغيب , جلس وتنهد : والله ما عاد فينا شدّه يا جماعة..
رد أحدهم عليه : والضحكة تتماوج فوق شفتيه : سمعنا أنك تبغى أمعرس يا مفتي .. قهقه الجميع فردّ مفتي : والله إن ودي معاك لي مَرَه ؟ بس أخاف تلحق اللي قبلها ..
فحين يكون الحديث عن الزواج تذوب كل آثار التعب عن وجه مفتي ، فهو رجل مزواج تزوج أربع عشرة مرّة , أكثر نسائه عمراً في حياته لم تدم حياتهما معاً سوى سنواتٍ أربع , وآخر الهاربات من حياته كانت في موسم حصاد زرع العام الفائت , مفتي لا يستطيع العيش دون امرأة أو أكثر في حياته , ظل هكذا منذ أكثر من خمسين عاماً يتزوج ويهربن النساء منه لسوء عشرته ومزاجه المتقلب ، هو الآن في الثمانين وهو يفتش عن رائحة النساء يلاحقهنّ حتى في رائحة الطين وجريد النخل العابق فوق جنبات الوادي ..
التفَت مفتي إلى بكري : مذا حالك ما شاء الله ارتدت روحك ورجعت لك العافية ..
الحمد لله يا عم مفتي ابشرك عدت بخير نحمد الله ونشكروه ..
صمَتَ بكري كعادته فهو لا يطلق الحديث للسانه كثيراً ..
فمنذ يومين يفكّر بالعودةِ إلى قريته فلا شيء يجبره على البقاء هنا ولكن بكري ممتلئ بالنخوة والشهامة فما قدّمه أهل القرية له جعله يدور في صراع رد الجميل فهو لا يعرف كيف يرد لهم صنيعهم , تُبْحِرُ في أنفاسه أفكار تمتطي صهوة النخوة بداخله , يفكّر أن يُعِيْنَ أهلَ القرية في حصاد زرعهم فموعد قطافها دنا والزرع مثقل بأكمام الذرة , وتلك فرصة قد لا تتكرر لبكري رغم أنه يرى أن ذاك قليل مما أفاضوه عليه , فالتهاميّ لا ينسى يداً امتدت له بالحياة والخير .. لكنه يعود لدائرة الصراع والألم فالقوم هنا لن يقبلوا بذلك فليس من عادتهم أن يساوموا على خيرٍ قدموه لأحد فبيوتهم كحقولهم تفيض عذوبة للبائس والمنهك وصِحَافهم تُشْبِعُ الدار والجار وقاصديها .. بقي هكذا بكري في دوّامة رد المعروف كطائر يناغي الريح قبل أن تسوق إليه مواسم الرحيل ..!
مضى أسبوع لأبي يحيى وهو غائبٌ في تيهِ الوجعِ وتَكَاثُر أسئلة الحَيْرة بداخله جنّ عليه الليل , فأخذته الخُطى ليُمشّطَ ممرات القرية وزواياها دون أن يضع حداً لتسكّع أقدامه , تمسُّ وجهه نسمة هادئة باردة تحمل رائحة الحقول والطمي وسحر الليل اليانع في قريته كانت أضواء الفوانيس في آخر أنفاسها وبعضها تذوب في نصف نضجها , يلمح (زربة) عوّاض رخوة الوثاق فيُحْكِم إقفالها , كانت كل منازل القرية صامتة كعادة قرى الريف التهامي في مثل هذا الوقت إلا من نباح كلب أو صياح ديكٍ أراد أن يُشعلَ الفجر قبل موعده , أبو يحيى يمرّ بجوار دار قديمة منذ أن عرف نفسه وهي خاوية صامتة لا أثر للحياة في ثقوبها , إنها القرية التي تشبّعت بأقدامه منذ أن كان طفلاً حتى بلغ ساقية الأربعين من عمره لا شيء يملأُ الحياة الآن سوى أصوات الأغنام أو الكلاب أو نقيق ضفادع عند بركةٍ لماءِ المطرِ في وسط القرية , يطوف بعينيه السماء فالنجوم بدت متزاحمة وكأنها لا تريد إلا أن تملأ الرقعة المتاحة للسماء أن تظلل بها القرية , يبدو الليل ناعماً عذباً هنا لكن وجع أبي يحيى في مواجهة الموت الذي تلقّاه قبل أسبوع عن بكري يبقى شاخصاً بطعم الألم , مُرّاً بمذاق الشمس التي ستبدأ معركتها مع الناس بعد ساعات من رحيل هذه العتمة ..! يطوي أقدامه وضلوعه على القرية بيتاً بيتاً ، لا شيء مختلف سوى الحيْرة التي تسكنه فكيف يخبر أهل القرية بموت بكري ؟ إنه موتٌ وليس فرحاً فلا أحد لديه الجُرأة على نقل حدثٍ كهذا مهما امتلك من القوة والشجاعة ، كما أن موت بكري لم يَسْمَعْ به أحدٌ سوى صديقه الربعيّ فربما كان مخطئاً أو ربما يكون ذاك الغريب رجلاً آخر غير بكري .. إنه تدافع الصراع والحيْرة والضياع الذي يجنح بأبي يحيى نحو الصمت أو الإقرار بخبر موت بكري ومن ثم البوح لكبار أهل القرية , هذا المزيج من الوجع قاده إلى فراشه بعد أن طوى القرية بقدميه ولفّها من وحشتها إلى وحشتها . (يتبع)
محمد الفقيه الشهري
تويتر: @mohmed_alshehre
سناب شات:alshehri22111