بعد صلاة الظهر اجتمع رجالٌ من القرية في منعطف صغير على زاوية تل يمتلئ في مثل هذا الوقت من كل عام بأشجار الطلح والسَلَم والأثل في تشابك وتناغم فريد لا تنفذ منه الشمس إلا بقدر انفلات الضوء ما بين انفراج الأصابع في اليد الواحدة , حضر العم ظافر ومحسن والعم جابر مؤذن القرية و عوّاض وآخر الحضور كان أبو يحيى الحطّاب , ترحّموا القوم على بكري والحزن يفتل عتمته فوق أنفاسهم , فقرروا بعث اثنين أو ثلاثة من القرية كي يتوجهوا إلى القرى المجاورة للعين الحارة في ثربان صبيحة يوم غد , ذاع في القرية نبأ موت بكري وقد تناهى الخبر إلى مسمع غيثة فسقطت بين النسوة مغشياً عليها فتارة تصحو من إغماءتها وتارة تلجّ بصخب وصوت متهدّج قد بُحّ من كثرة الصياح ونشيج الدمع والبكاء أخذن النسوةَ يسليّن غيثةَ ويذكّرنها بقضاء الله وقدره فالنوازل حين تحلّ بالمرء عليه التسليم بأمره . بقين هكذا فمنهن من يبكين ومنهن من يترحّمن على بكري ومنهن مَنْ تُملي الصبر والسلوان على غيثة , أما الغائبة عن هذا الوجع وفاجعة الموت وتجمّع النسوة في بيت بكري هي مطَرة فهي منشغلة ترقب المجتمعين تحت ظل الطلح والسدر ترقبهم عن بعد تسترق السمع وتتلمّس حقيقة خبر موت بكري , تحدّق في القرية وتفلت النظر لعينيها ترمق الذاهبين والقادمين كي لا يشعر بها أحد فالأقدام الجائلة هنا وهناك كلها تيمّم وجهتها نحو منازل القرية العلوية حيث بيت بكري وجاره العم جابر فعزاء بكري سيقام في حجرة العم جابر . بدأت الشمس تقذف بضوئها خلف الأفق لتلملم آخر سياطها الذهبية لتعلن ميلاد ليل حزين منكسر .
بكري بات بجوار التل المطل على جنبات القرية من الجهة الشرقية يسابق خطواته قبل أن ينتشر ليل أدلج في القرية وقبل أن تعوم في صفحة من الظلام , انحدر بناقته باتجاه السَلَمَة التي عادة ما تكون الممر الأول للقادمين باتجاه القرية , حسن ولد أبي يحيى الحطّاب كان غارقاً في جمع الماشية بداخل (المراح) انتهى من شد وثاق الزربة وحصّن مداخلها فعادة الذئاب تقتحم الأشواك والتحصينات فتلتهم ما طاب لها من الأغنام لتُحْدِثَ مجزرة تختلط فيها أشلاء صغار الماشية بكبارها .. لم يكد حسن أن يرفع نظرة من آخر أشواك وضعها حول المَرَاح إلا وتقع على خطى ناقة تضرب بأخفافها الأرض يُرخي نظره يفرك عينيه فالدهشة تجتاحه ليتسمّرَ برهة فيرخي الحبل الملتفّ حول خاصرته يسير باتجاه الناقة القادمة , الرجل القادم بكري والألم والحزن هنا لفقْدِ وموت بكري هذه اللحظة التي تنشب أظفارها في عينيّ حسن يحتاج فيها المرء إلى ألف عقل كي يستوعب هذا الانشطار بين الحياة والموت حسن يتقدّم ثم يقف . عيناه جاحظتان ويداه برَدَتا وجسده اقتحمه الذبول وخُطاه التصقتا بالأرض , إنه بكري ليس ظلاً أو خيالاً إنه القادم من الموت , الغائب في الألم حد النسيان والعزاء , بكري ينادي : ,, حسن وين الجماعة مذا بالقرية ما كن فيها مخلوقن ,, فالقرية هادئة ساكنة إلا من ريح ناعمة تداعب جريد النخل فعادة ما يكون عوّاض (يَعْلِق ) أغنامه وظافر صوته لا تذوب حدّته فإما فوق (شبريته) يقتحم المساء بقصائد العرضة والخطوة أو في مناغاة جيرانه بأحاديث لا تعني له سوى ليل يملؤه بالحديث عن أي شيء , لكن شيئاً من هذا لم يسمعه بكري ولم يحسّ به كعادة كل مساء من مساءات القرية , فالفوانيس تملأ حجرة بيته والظلام ضارب أطنابه في بقية الجسد الناعم للقرية , بكري بدأ يتنفس بارتعاشة التوجّس من أمر جلل ربما أصاب غيثة , فالقرية لا تجتمع فوانيسها في منزل من المنازل إلا لفرحٍ أو فاجعة ..!
حسن صاح منطلقاً واضعاً طرف وزرته في فمه يشدها بأسنانه ليقتحم الأشواك ونتوءات الأرض الصخرية فيقفز من فوق الأخضر واليابس الذي يعترض طريقه فيصرخ بدهشة ليطلق صوته لليل والظلام : ،، بكري بكري بكري جا يا جماعة بكري ما مات بكري جا ،، ظل هكذا حتى وصل حجرة بيت العم جابر المؤذن فتلعثم متعثراً بقدميه بين الناس المجتمعين في حزنهم ولهاث أنفاسه يلجّ كوابل المطر , انتفض الناس على صياحه ولهاثه فلم يعهدوا حسن كاذباً أو مخبولاً , خرجت النسوة على صياح حسن فركض شبان القرية باتجاه الناقة التي نوّخها بكري بجوار المسجد , التمّ الرجال حوله بين مصدّق ومكذّب بين الحقيقة والخيال , كأن الحياة تسير بهم في بعُدٍ زمني آخر , العم ظافر يتفقد بكري بعينين محدّقتين , ولسانه يقلّب عبارات التعجب ,, أنتَ حيٍّ يا بكري .. ليقاطعه عوّاض ,, بكري ترانا نراك ذلحين مثل امحلم ..,, مرّ الوقت هكذا حتى ارتفع أذان العشاء فخشعت له القرية بليلها وهدوئها وصمتها وصخبها .. لم تكن تلك الليلة الفارقة في نبض القرية ليلة عابرة بل ستتمدد طويلاً في ذاكرة الناس وستروى في حكايات الجدات والأمهات لأطفالهن فليس أمراً عابراً أن تتحول قرية بأكملها من حزن وعزاء إلى دهشة يتقاطر فيها الفرح كما تتقاطر الريح في سعف النخل كل ذلك يحدث ما بين المغرب والعشاء .. !
محمد الفقيه الشهري
كاتب وأديب
للتواصل:
تويتر: @mohmed_alshehre
سناب شات:alshehri22111
- الفريق السعودي فالكونز يتوّج ببطولة ESL One Birmingham
- ختام المؤتمر الدولي للنشاط البدني بجامعة الملك سعود
- 148 ميدالية سعودية في ختام الألعاب الخليجية الأولى للشباب المبارزة
- طلاب تعليم جازان يستكشفون الأطباق الوطنية السعودية في معرض الطهي المتنقل
- جدة تستعد غداً لانطلاق بطولة “سماش السعودية 2024” لكرة الطاولة
- تنطلق الاربعاء المقبل بطولة المملكة للأندية لرفع الاثقال للناشئين والشباب
- تنطلق الخميس المقبل بطولة أندية المناطق الثانية للرجال والسيدات لرفع الأثقال البارالمبية
- يتسع لـ 200سرير..مجموعة فقيه للرعاية الصحية توقع اتفاقية لبناء مستشفى في أبحر شمال جدة
- 136 ميدالية سعودية في دورة الألعاب الخليجية الأولى للشباب في اليوم قبل الختامي للدورة
- تعليم جازان يحقق المركز الأول والأعلى تسجيلاً في الأولمبياد الوطني للبرمجة والذكاء الاصطناعي
المقالات > الجــــــــريــــــــن ١٢
محمد الفقيه الشهري
الجــــــــريــــــــن ١٢
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.watannews-sa.com/articles/67337.html