الآن نَسِيَ بكري قدمه ، ونَسِيَ وجعه ، نَسِيَ كل شيء ،فلا أقدام تُعِيْنُه على الحركة ولا نداءَ يجدي في هذه الوحشة التي تقفز في كل جنبات الوادي، صوت حمائم القمريّ يطوف في أذنه، فهو المعزوفة الوحيدة التي تشاكس الألم في سطوة وجعه , فاللحظة الباهتة بدأت تغزو ضعفه وألمه , تنهيدة طويلة منكسرة يردد معها بكري : يا رب هب لي معونة من عندك ..
فمازال يعبر بعينيه كل أطراف الوادي ،يتحايل على أشجار الأثل ،يطارد ثُقبَ أملٍ قد ينسلُّ من بين أوراق السَلَمْ ،فليس من عادة التهاميين في وقتٍ كهذا ألا يطّـوفوا بأغنامهم حول الشعاب والأودية وتنغيمات الشجو التي يألفها النهر ، تمدُّ أكفها لأشجار المض و المرخ على وقع تلك الحناجر المسكونة بأناشيد الرعاة وأصوات الفلاحين كل صباح، وليس من عادة تلك الأصوات الحالمة أن تبقى صامتة إلى هذا الوقت !
ولكنّ صوت الناي (الصفريقه) يحضر من بعيد وكأنه يجوب أذنيّ بكري كخيالٍ باهتٍ يعبر رائحة الصباح ،فينهض من مكانه يترقّب موعدَ القَدَر القادم من أهزوجة تهامية يسمعها تُغْرِقُ المكانَ شجواً ،فالصوتُ القادمُ يدرك بكري أنه لأحدِ الرعاةِ، فأناشيدهم وعزفهم تمسّ براحتيها المكان ليمكثَ طويلاً يتمايل على مشارف الحنين أمام خُطى الأغنام، وكأن (الصفريقةَ) ريحٌ تمشّطُ الطريق للأغنام نحو العشب والماء !
بكري يصرخ للصوت القادم ،فينهض هاتفاً لمصدر العزف القادم من الناي التهاميّ ،فلم يكد الصوت أن يتلاشى ويفقد خطوطه المتعرجة في حنجرته ،حتى يظهر من بين أشجار الأثل رجلٌ تنقاد خلفه ماشيته وكأنها انتظمَتْ في خيطٍ من الحرير , رجلٌ ضخم الجثة طويل القامة يبدو في ملامحه الأولى أنه (ثربانيّ)، فشَعَره مجدولٌ يتدلّى من على كتفيه، يلمحه بكري فينهض منادياً متلعثماً موجوعاً كسيراً، فيُقْبِلُ الرجلُ إليه مسرعاً وقد استنهض همة النخوة الثربانية المسكونة فيه ..
مذا أنتوا عليه يا رجَال ؟ إن شاء الله ولا دوَلن؟
بكري يتمتم واللهاث يعبأ به ،أدرك الرجلُ أن بكري ليس بوسعه الحديث كثيراً ،فنداءات الاستغاثة تُمْلي عليه أن يقوم بدور المنقذ أولاً ولاحقاً ربما سيعرف أمر الرجلين , يأخذ الرجل بأطراف مُفرح المسجّى فوق الرمل فلا وقت لديه كي يتحاور مع بكري ،فاللحظة لا تنتظر كثيراً وقد لا يمهل القَدرُ خال بكري ..وعلى عجلٍ وبهمة الشاب الممتلئ قوة ونخوة يحمل الرجلُ مفرحَ على ظهره ليُخبِرَ بكري بأن وجهتهم ستكون هذا الجبل فبيته هنالك وقريته لا يفصلهم عنها سوى التل الصغير المنحدر من طرف ذاك الجبل ..بكري يتحامل على نفسه يصعد الناقة وقدمه تنزّ ألماً قد اتسع أكثر من ذي قبل , وبينما يعجّ الطريق باللهاث وسباق الوقت وعلى وقع الخطوات المتعثرة تارة والمنكسرة بصمت مفرح وتأوهات بكري تارة أخرى، يسأل الرجل : أنتوا من وين يا ذيه ؟
بكري ظلّ صامتاً عازفاً عن الإجابة ،فالناقةُ التي تحمله بدأت تنحرف به قليلاً عن خط سيرها ،لكن عينيه الآن تعبر الأماكن التي يمر بها , فالناس هنا يشبهون أهل قريته , في حقولهم يحرثون ويعملون والثيران تجر خلفها (اللّومة) ،وفي الحقل المجاور رجال ينحنون على محاريثهم ،وآخرون يذرّون حب الذرة في تربة أراضيهم , فعيناه بدأت تمتلئ بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الجبل حيث البيوت تتعامد بحجارتها الطينية في زوايا القرى المتناثرة عند السهل فالنسوة يحملن (القِرَب) على أكتافهن وأناشيدهن تفوح كرائحة السُمُر بعد هطلة مطر , فلا شيء يذيب ملامح هذه القرى في عينيه غير سماعه بين اللحظة واللحظة صوت الفأس في الحطب ،أو خوار ثور، أو نهيق حمار، أو هديل قمريّة تصدح في جنبات الوادي، أو صياح الناس الذي ملأ القريةَ بأكملها , بدأ الحنينُ يشحذ مخيلته ،فالآن تمور في ذاكرته زوجته (غيثه) صوتها ،رقتها ،سحرها، عذوبتها، كل شيء بدأ يعزف مقطوعة الحنين في داخله إليها، لكن مصيرَ خاله مفرح يعيده إلى انصهار الحرائق التي تسكنه لتهرب به بعيداً عن وحشة الحنين نحو قريته وأهلها، فمنذ الضحى وهو يغط في إغماءته وأنفاسه تتقطع تارة وتعلو أخرى وقدمه أصبحت متورمة لا حراك بها ، وقد تقطّعت بهم السبل وطريقهم يصافحه المجهول بقسوةٍ ومرارة ،كل هذه الآلام تجعل بكري يعود مرة أخرى بمخيلته المعبأة بالظمأ إلى قريته وأغنامه وزوجته وحتى رائحة روث البهائم تملؤه بالدفء ،فربما مجرد العبور إليهم بذاكرته تجعله يُخيّلُ إليه أنهم يصاحبونه في وحدته وألمه. فلا هو الذي يعرف كيف يرّوض حنينه في لحظة ألمه ولا هو الذي أدرك قدَرَه كي يستسلم له !
(يتبع)
- سياحة سيدات العدالة أبطال المملكة
- “تمكين تعليم الربو” ختام فعاليات اليوم العالمي للربو بالدمام
- الأخضر السعودي يحقق أول إنجاز تاريخي له في البوتشيا
- براعم الاتحاد ابطالاً لبطولة المملكة للأندية لفئة البراعم تحت 15 سنة لرفع الاثقال
- أخضر التايكوندو يحطم الهيمنة الكورية ويعانق الذهب الآسيوي للمرة الأولى تاريخياً و دنيا والظافري يكتبون التاريخ
- “التخصصي” يفوز بجائزة الرعاية الصحية القائمة على القيمة
- آلية التسجيل في خدمة النقل المدرسي عبر نظام نور للعام الدراسي القادم 1446هـ برنامج تدريبي بتعليم جازان
- افتتاح منصة الحجوزات للإبحار على متن ” أرويا كروز” أول خط رحلات بحرية سياحية عربية لكروز السعودية
- في “مركزي” القطيف ..16 ورقة علمية بمؤتمر النهج السريري لأمراض السكر و الغدد الصماء في الرعاية الاولية
- #الهيئة_السعودية_للبحر_الأحمر تصدر أول تراخيصها لمشغلي المراسي البحرية السياحية
المقالات > الـِـَـِجـِـَـِريـِـَـِن ٤
محمد الفقيه الشهري
الـِـَـِجـِـَـِريـِـَـِن ٤
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.watannews-sa.com/articles/54587.html