النقل الخارجي بين فرحة العودة وحزن الفراق

بقلم: سراء عبدالله السبيعي -
كنا نظن أن البكاء حليف الوداع، فإذا به رفيق العودة كذلك، فالرجوع ليس دومًا انتصارًا، أحيانًا يكون خسارةً خفية لأماكن أحببناها دون أن نعلم ولوجوهٍ تسلّلت إلى قلوبنا بهدوء
ثم أصبح وداعها يشبه اقتلاع جزءٍ من الروح
ليس كل اغتراب شتاتًا، وليس كل عودة قرارًا، ففي حياة البشر محطاتٌ تبدو كأنها فواصل مؤقتة لكنها تتحوّل بمرور الذكرى إلى عناوين أبدية
هذا هو النقل الخارجي
حدثٌ إداريّ في أوراق الجهات الرسمية، لكنه في القلب زلزالٌ صغير، لا تُرى شقوقه بالعين المجرّدة لكنها تتسرّب في الليل على هيئة تنهيدة أو دمعةٍ خجلى
نحن لا ننتقل من مكان إلى آخر بل نُنتزع من ذاكرة، ونُزرع في ذاكرةٍ أخرى
نغادر شوارع كانت تحفظ خُطانا، وجدرانًا عرفتنا دون أن ننطق، وأرصفةً اقتسمنا فوقها رغيف الهمّ والضحك
نترك لهجاتٍ ألفنا موسيقاها، حتى صارت نغمتنا الداخلية
في لحظة الرحيل، لا يبكي المغترب لأنه سيعود لوطنه، بل لأنه يترك وطنًا آخر لم يخطر له يومًا أنه سيكون كذلك يذرف دمعةً على وجوهٍ لم تكن من عائلته لكنها أصبحت أهله
على أسماءٍ لم ترد في شجرة نسبه، لكنها امتدّت كجذورٍ في قلبه يبكي مكانًا غريبًا، صار مألوفًا، حتى كأن الجغرافيا تآمرت عليه، لتجعله منزله الثاني.
التجربة الأولى في العمل ليست مجرّد سطرٍ في السيرة الذاتية، بل هي ميلادٌ آخر
أولُ تعيين، أولُ توقيع، أولُ خيبة، وأولُ انتصار
أولُ كوبِ قهوة يُحتسى بين ضحكتين، وأولُ مساءٍ يُختتم بجملة: أشوفكم بكرة
أصدقاء العمل ليسوا زملاء فقط، بل مرآة نرى فيها تعبنا ونقطة الضوء في ممرات الحياة الطويلة
الانتقال مؤلم، لأنه لا يقتلع الجسد فقط، بل يجرّ معه الروح من جذورها يخلّف وراءه بقايا صوتٍ في ممر، وضحكةً في زاوية، ودعابةً عابرة، ورائحةَ عطرٍ عالقة في ذاكرة المكاتب
وبرغم بهجة الرجوع إلى الأهل، تبقى غصةٌ لا تفسّرها الكلمات، لأننا ببساطة لا نعود كما غادرنا
وهكذا، كما خرج النبي ﷺ من مكة مختارًا لا مُجبرًا، ترك فيها قلبه، وإن خطت قدماه نحو المدينة
ففي كل انتقال، هناك من يُشبه الأنصار، أولئك الذين احتضنونا، آمنوا بنا، وشدّوا على أيدينا حين كنّا غرباء
إلى كل من غادر مقرّ عمله، أو ودّع زملاءه، أو طبع قبلةً أخيرة على بابٍ لن يطرقه مجددًا
لا تقل وداعًا
بل قل: أراكم في الذاكرة
في الدعاء الخفيّ، في مناسبةٍ عابرة
في دفترٍ طُوي على هامشه توقيعك
أو في ملاحظةٍ سقطت من درجٍ نسيك ولم تنسَه
مباركٌ لك قرب الأحبة ومباركٌ لهذا المكان أنه عرفك ولعلنا نلتقي، لا في أرضٍ واحدة، ولكن في حنينٍ لا يعترف بالحدود.
اكتشاف المزيد من صحيفة اخبار الوطن
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.