محمد بن سلمان في واشنطن: زيارة استراتيجية تعيد تعريف موازين القوى

بقلم - علي هياس الزهراني

زيارة استثنائية وإعادة ضبط البوصلة لقد كانت زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في نوفمبر 2025 حدثًا محوريًا تصدّر اهتمامات الإعلام العالمي. لم تقتصر أهمية الزيارة على كونها لقاءً اعتياديًا بين قيادتين، بل تجاوزت ذلك لتصبح نقطة تحول يُنظر إليها بعمق، ليس فقط بسبب المباحثات مع الرئيس دونالد ترامب، ولكن بسبب الوزن الشخصي والاستراتيجي للضيف الكبير. فالأمير محمد بن سلمان يمثل اليوم بالنسبة للكثيرين في المنطقة “الأمل المنتظر” والقادر على صياغة مسار جديد في التعامل مع القضايا المصيرية، مدعومًا بذكاء دبلوماسي، وحسن إدارة للعلاقات والمفاوضات التي دائمًا ما تُترجم إلى نتائج ملموسة.
أولاً: الأجندة الإقليمية والدولية على طاولة المباحثات أكدت الزيارة أن اهتمامات ولي العهد تتجاوز الحدود الجغرافية للمملكة، ممتدة إلى السعي لخلق حالة من السلم والاستقرار في المنطقة والعالم. ففي صلب مباحثاته، شكّلت القضايا الإقليمية أولوية قصوى، حيث وضع القضية الفلسطينية في مقدمة الأجندة كـ”أيقونة سلام” لاستقرار المنطقة بأسرها. وقد ركّزت المناقشات مع الرئيس ترامب على تطبيق الاتفاقيات المبرمة سابقًا وخطط إعادة إعمار غزة.
كما لم تغب المأساة السودانية عن المباحثات، حيث تفاعل سموه بحرارة مع هذا الملف الإنساني، ساعيًا للحصول على التزامات دولية بإنهاء الصراع والانتهاكات التي تفتك بالمدنيين، مما يؤكد دوره كصانع سلام يسعى لإطفاء لهيب الصراعات العربية والإقليمية.
ثانياً: رمزية اللقاء.. ومكانة المملكة المتنامية مثلت زيارة ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، حدثًا استثنائيًا عكس المكانة المتصاعدة للمملكة العربية السعودية، التي أصبحت تشكل ثقلًا كبيرًا في الشرق الأوسط والعالم. لم يكن اللقاء مجرد تبادل للمصالح المشتركة، بل كان لقاء “زعيم بزعيم” يتباحثان صياغة تاريخ جديد في ميزان القوى. فقد تحولت السعودية إلى دولة منافسة ذات ريادة عالمية، تفرض كلمتها في المحافل الدولية كمعادلة نفوذ وصانعة استقرار.
عكست مراسم الاستقبال رفيعة المستوى – من لقاء المكتب البيضاوي إلى العشاء الرسمي في قاعة الشرق بالبيت الأبيض، والعروض العسكرية المهيبة التي تضمنت طائرات مقاتلة فوق البيت الأبيض – عمق وقوة الشراكة الاستراتيجية. فقد ظهر الأمير محمد بن سلمان بهيبة وكاريزما طبيعية، حاملًا معه هوية وطن وشموخ قيادة، ورسالة صريحة من التمكين والثقة المطلقة.
ثالثاً: دلالات الحضور.. رسائل الهوية والكاريزما حملت تفاصيل الزيارة رسائل مدروسة وموجهة، عكست وعيًا وحكمة وسرعة بديهة، ومن أبرزها:
التمسك بالزي السعودي التقليدي: لم يكن اختيار الزي مجرد خيار شخصي، بل قرار مقصود لتثبيت صورة ذهنية في الذاكرة الغربية تؤكد على الهوية الوطنية المستقلة وذات الجذور التاريخية التي تمثل أصالة وقيمة لا تُستبدل.
إلقاء الكلمة باللغة العربية: في منتدى الاستثمار الأمريكي السعودي الذي ضم نحو 400 رئيس تنفيذي لشركات عملاقة (مثل أرامكو وجوجل)، أصر سموه على إلقاء كلمته باللغة العربية، مؤكدًا على عالميتها وكونها تمثل العمق التاريخي والديني للمملكة.
القوة والصرامة في الرد: تميزت إجابات ولي العهد بذكاء وفطنة وحسم، خاصة في مواجهة الأسئلة التي حاولت اتخاذ منحنى أيديولوجي مغاير. وقد كانت زيارته في مجملها بمثابة رد عملي وقاطع على التصريحات السابقة التي وصفت العلاقة بأنها “مالية” أو اعتمدت على خطاب الضغط. وقد تجسد ذلك في تصريحه القوي والحاسم الذي وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، عندما قال: “نحن لا نقوم بالاستثمار لأجل إرضاء أمريكا أو ترامب، نحن نرى فرصة حقيقية هنا تعود علينا بالفوائد، نحن لا نخلق فرص وهمية”. هذا التصريح وجّه رسالة واضحة بإنهاء حقبة العلاقات القائمة على المنفعة الأحادية، والتأكيد على أن الشراكة تُبنى على أساس المصالح المشتركة والندية، وهو ما أدى إلى إرساء قواعد جديدة للاحترام المتبادل.
حصاد الزيارة.. شراكة استراتيجية بامتيازات غير مسبوقة
لقد حققت زيارة ولي العهد نتائج استراتيجية كبرى، بدءًا من الإعلان الأمريكي عن تصنيف السعودية كـ حليف رئيسي غير عضو في الناتو” (MNNA)**، مما يمنحها امتيازات عسكرية واقتصادية دون التزامات أمنية كاملة.
مهّد هذا التصنيف لعقد حزمة من الاتفاقيات النوعية والفريدة في مجالات الأمن والدفاع (بما في ذلك صفقة طائرات F-35)، والاقتصاد، والطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تعكس هذه الاتفاقيات، بإجمالي استثمارات تريليونية ضخمة، التزامًا بنقل وتبادل الخبرات وتوطين الصناعات التكنولوجية، بما يدعم محاور رؤية المملكة 2030 ويعزز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين الصديقين



