الذات القوية لا تنشأ من قسوة الكِبر، بل من احترام وتكريم الطفولة

بقلم - علياء العاجريالعاجري الشهري
كثيرون يقعون في خطأ شائع عند تقييم النفس البشرية، فيحسبون أن من عاش خيبات مؤلمة في الكبر واختبر قسوة العلاقات أو خيانة الأحباب أو حتى عنف الأسرة والمجتمع لاحقًا، إنما هو بذلك يتطهر ويشتد ويقوى. يتخيلون أن انطفاء المرح، وخفوت البهجة، وانكماش الشغف، إنما هي علامات وقار ونضج وقوة. بينما الحقيقة النفسية والعلمية تقول شيئًا مختلفًا تمامًا، بل معاكسًا في بعض أوجهه.
الطفولة والمراهقة: المرحلة الذهبية لتكوّن الذات
النفس البشرية لا تُصقل في الكبر عبر الألم فقط، بل تتكوّن بنيتها الأولى في أحضان الطفولة وتمتد جذورها إلى مرحلة المراهقة حتى سن العشرين تقريبًا. فالعقل العاطفي والعقلي والاجتماعي يستمر في التشكُّل عبر الخبرات اليومية والانفعالات والعلاقات والقرارات الشخصية. لذلك، لا يكفي أن يقال إن الطفولة فقط هي منجم الشخصية، بل لا بد من التأكيد أن المراهقة أيضًا محطة تأسيسية جوهرية، لأنها المرحلة التي يبدأ فيها الفرد في اتخاذ قراراته، واختبار استقلاله، والتفاعل مع العالم خارج حضن الأسرة، واكتشاف ذاته وهويته.
الطفل والمراهق الذي يحظى باحترامٍ حقيقي داخل أسرته، ويُمنح مساحة آمنة للتعبير عن رأيه، ويُشجّع على اتخاذ قراراته بنفسه، هذا الفرد لا يخرج فقط واثقًا من ذاته، بل محبًا للحياة، منسجمًا مع وجوده، متوازنًا داخليًا.
علم نفس النمو يؤكد أن السنوات الممتدة من الطفولة حتى نهاية المراهقة هي حجر الأساس في بناء الشخصية. ليس ما يمر به الفرد في الرشد هو الذي يحدد قوته، بل ما زرع فيه في بداياته. الدعم المعنوي، شعور الطفل والمراهق أنه مُعترف بوجوده وكيانه، أن رأيه مهم، أن رغبته تُحترم، هذه هي اللبنات الأساسية لقوة الذات. القوة التي تولد من الإعجاب بالنفس لا الغرور، ومن الاستقلال لا من الانفصال، ومن الحضور لا من الإلغاء.
الترف المدمر والقمع المحطم: وجهان لخلل تربوي واحد
من أخطر ما تواجهه الشخصية النامية، أن تقع بين ترفٍ مفرط يسلب منها الاعتماد على النفس، أو قمعٍ عنيف يسلب منها الثقة بالنفس.
في الترف، يذوب الفرد في حضن والدين لا يتركان له فرصة للمواجهة، فينشأ هشًا لا يستطيع اتخاذ قرار أو خوض تجربة، وكلما كبر شعر بالضياع حينما يُطالب بمهارات لم يُسمح له ببنائها. وهذا النوع تحديدًا من الترف، القائم على الإشباع العاطفي والمادي بلا تحميل مسؤولية، يُنتج شخصية هلامية وهشة، تخاف من المواجهة، وتعاني من خواء داخلي حقيقي. فالمبالغة في الاحتضان دون احترام الاستقلال، وتقديم كل شيء بلا ثقة في قرارات الطفل، تصنع كائنًا هشًا لا يرى ذاته إلا من خلال الآخر، ولا يجد معنى لوجوده بعيدًا عن التعلق والتبعية. يُغدق عليه الحب، وتُغرقه القُبلات، لكنه لا يشعر بالقيمة الذاتية، لأنه لم يُمنح فرصة لبناء إرادته، ولا لصناعة اختياره، ولا للوقوف على قدميه.
فهو قد يكون محبوبًا ومُدللًا، لكنه خائف، ضائع، لا يعرف كيف يتخذ قرارًا، ولا يثق في قدرته على السير بمفرده. يعيش بداخل رفاهية خارجية لكنها تخفي هشاشة نفسية واغترابًا داخليًا لا يُرى بالعين، بل يُكشف عند أول احتكاك بالحياة خارج الدائرة الأسرية.
أما في القمع، فالطفل والمراهق يُجبر على كبت مشاعره، يُذل حين يخطئ، ويُقهر حين يطلب. هذا النوع لا يتعلم كيف يحب نفسه، ولا كيف يُصدّر ذاته للمجتمع. إنه يخرج للحياة ممزقًا، يحمل شعورًا دفينًا بأنه غير مستحق، فينمو بداخله شعور بالعار الداخلي، يجعله يكره نفسه والآخرين، ويخاف من الفرح والنجاح.
صدمة الكبر لا تُنتج قوة بل قد تعيد فتح جراح الماضي
ما يتعرض له الإنسان في كبره من فقد أو غدر أو تحديات لا يبني ذاته بل يكشفها. من تربى على أرض صلبة، سيقاوم، وسيتعافى، وسيصنع من الجرح مشروعًا للنهوض. أما من نشأ هشًا، فإن صدمة الكبر تكون عليه كالقشة التي تقصم روحه. لا تصنع منه قويًا، بل تنزع عنه آخر ما تبقى من اتزان.
هذا ما تسميه مدارس علم النفس الإكلينيكي “إعادة التفعيل”، حيث يعيد العقل اللاواعي إنتاج مشاعر الطفولة والمراهقة عند مواجهة مواقف مشابهة في الكبر، فيشعر الإنسان بأنه يعود ليعيش ذات العجز، وذات الوحدة، وذات الألم، رغم اختلاف الأشخاص والزمان.
البهجة ليست سذاجة.. والشغف ليس ضعفًا
من المؤسف أن يُنظر لمن يحتفظ ببهجته في الكبر، أو شغفه بالحياة، أو رغبته في الحب والضحك والجمال، على أنه ساذج أو غير ناضج. في الحقيقة، هؤلاء هم الأصحاء نفسيًا. هؤلاء لم تنكسر أرواحهم، رغم كل ما واجهوه. لأنهم تأسسوا على حب الذات، وعلى ثقة داخلية راسخة بأنهم يستحقون الحياة بكل ألوانها.
من يُحب نفسه بصدق، لا يُعادي الفرح. لا يعتذر عن الشغف. لا يخجل من رغبته في الاستمتاع بالجمال والترف النفسي. لا يُقنع نفسه أن الجفاف العاطفي وقلة الكلام وعبوس الملامح علامة نضج. بل يرى أن النضج الحقيقي هو في أن تكون مرنًا، متأقلمًا، قادرًا على إنتاج الفرح من العدم، وعلى إيجاد المعنى وسط الرماد.
خاتمة
قوة الذات ليست عرضًا جانبيًا للمعاناة، بل نتيجة مباشرة لبناء نفسي سليم منذ الطفولة ويمتد حتى نهاية المراهقة. إنها حصيلة حب، وثقة، واحترام، واستقلال، ورعاية شعورية صادقة. أما ما نراه من قسوة في الكبر أو انطفاء، فغالبًا هو نتيجة تراكمات الطفولة والمراهقة المعطوبة، التي لم تجد من يرممها.
دعونا لا نُضلل بتعظيم الجروح، بل نُسلّط الضوء على الجذور. فالجذر هو ما يصنع الثمر، والطفل والمراهق هما من يُنبتان الرجل أو المرأة القوية، لا السنين الثقيلة في أعمار متأخرة
اكتشاف المزيد من صحيفة اخبار الوطن
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.