كُتاب المقالات

الشخصية ذات القالب الواحد: هل هي صِفة استقامة ام عرض خللي

حين تتسرب غرف النوم الى الشارع ويتعب الذوق من الصوت و النبرة

بقلم - علياء الشهري

في زوايا الحياة اليومية، حيث تتعدد الأدوار وتتغير المقامات وتتنوّع السياقات، تبرز ظاهرة مستفزّة في ظاهرها، خانقة في باطنها: ظاهرة الإنسان ذي القالب الواحد. رجلٌ أو امرأةٌ يعيش بكل وجوهه في قالب سلوكي جامد، لا يتبدل ولا يتلوّن، كأنما اختار لنفسه “زيًا أخلاقيًا” يرتديه في كل اللحظات، في العمق وفي السطح، في الغرفة وفي المنبر، في السوق وفي السرير.

هذا النمط من البشر، وإن بدا في ظاهره ثابتًا متماسكًا، إلا أنه يُشبه من يعاشره أو يعيش معه بـمفارقة فطرية: أشبه ما يكون بـوجبة دسمة واحدة تُقدّم ثلاث مرات يوميًا، كل يوم، دون انقطاع. لا فطور متغير، لا غداء مختلف، لا عشاء خفيف. مجرد تكرار خانق لنفس الطعم، ونفس الرائحة، ونفس الثقل. والنتيجة النفسية المتوقعة؟ غثيان… ملل… نفور… واستفراغ روحي وسلوكي. هذا الإنسان “الثابت دائمًا” يتحوّل إلى عبءٍ على نفسه وعلى محيطه، لأنه ببساطة رفض فطرته المتعددة، واختزل وجوده في شخصية واحدة تصلح لمقام، ولا تصلح لآخر.

بين التلون النبيل والتقمص الفجّ

تعدد الشخصيات هنا لا يعني التمثيل ولا الزيف. بل هو فن التلوّن النبيل وفق المقام والمقال. فالحياة بطبيعتها مسرح متعدّد الفصول، ولكل فصل لباسه ولغته ونبرته. لا يُعقل أن يتحدّث الرجل في حضرة زوجته كما يتحدث في ندوة علمية، أو أن تتصرف المرأة في مجلس علمي كما تتصرف في جلسة حميمة خاصة. هذه ليست ازدواجية، بل هي ذكاء نفسي وسلوكي، يحفظ كرامة الذات وحرمة المشهد.

على النقيض، تُستفزّ النفس حين ترى امرأة تتماهى بملامحها وسلوكها الصوتي والجسدي الخاص في مساحة عامة – على منصات التواصل أو في المؤتمرات أو في اللقاءات المختلطة – كأنها لا تفرّق بين غرفة النوم ومنصة العمل. هامسة، مترنحة، مغموسة في وجدانية غارقة لا تليق بسياقها.

الوجدانية الغارقة هنا ليست رومانسية بريئة، بل هي حالة سلوكية تتجسد عبر نبرة صوت منخفضة هامسة، مشبعة بالسكينة المفرطة، تتسلل للمتلقي كهمس فراش، لا ككلامٍ لمقام عام. تترافق مع نعومة زائدة في الملامح، حركات العين، بطء الحديث، التنهيدات المتكررة، والابتسامات الغائمة. هذه الحالة، حين تُعرض في فضاء اجتماعي عام، تفقد معناها وتتحوّل إلى خلل في الذوق والسياق، يُشبه بثًا حيًا من حياة زوجية على الهواء.

هنا، تفقد الشخصية اتزانها الأخلاقي والمعرفي، وتتحول إلى “مُسمّخ سلوكي”، لا تفصل بين الخاص والعام، ولا تعي أن اللغة الجسدية والصوتية أيضًا لها سياقاتها وضروراتها.

كذلك هو الرجل الذي يعيش مع زوجته بصورة واحدة لا تتغير، ثم يقف على المنبر الثقافي أو الديني، يتحدّث بنفس الصوت ونفس الوجه. هذا الاستنساخ الوعظي العاطفي في كل المواقف، يربك المتلقي ويفضح عمقًا نفسيًا هشًّا لا يملك إلا قناعًا واحدًا يضعه حتى في نومه.

الإنسان كائن ذو طبقات

الإنسان الحقيقي، السوي، المرن، هو كائن ذو طبقات. تتغير طبقته بحسب موقعه ومسؤوليته ووعيه الزماني والمكاني. الثبات الحقيقي ليس في القالب، بل في القيم. أما القالب السلوكي، فمتغير ومُتكيّف كالماء، يأخذ شكل الإناء لكنه لا يفقد جوهره.

أن تكون رجلًا حنونًا مع زوجتك، هذا من الرحمة. وأن تكون جادًا حازمًا في مجال العمل، هذا من المسؤولية. أن تكوني أنثى غامرة في لحظة حب، وأنثى عقلانية في مجلس نقاش، هذا من التوازن النفسي. الخلل حين تتنكر للمكان وتخون اللحظة باسم العفوية أو الثبات.

ضياع الحياء وارتباك الذوق

حين تتهتك الحدود بين الخاص والعام، يتراجع الحياء الاجتماعي، ويختلّ الذوق العام. وتتحول السلوكيات من كونها تعبيرًا ذاتيًا نبيلًا، إلى إزعاج بصري وسمعي وسلوكي. فنسمع من يتأوه علنًا، ويتمايل، ويُدندن، ويُغدق بنبرات لا تليق إلا في سياقاتها الخاصة. هنا يُصاب المجتمع بترهل في الحياء، وبلادة في الحس، ويضيع فن التمييز بين ما يُقال وما يُصان.

في الختام:

ليست البطولة أن تثبت على قالب واحد طوال حياتك، بل أن تُتقن فن اختيار شخصيتك بحسب المقام. أن تكون متعدد الطبقات لا يعني أنك مزيف، بل أنك واعي. أن تفرق بين المرأة في خدرها والمرأة في منبرها، والرجل في سره والرجل في علنه.

فلكل مقامٍ مقال، ولكل وجهٍ ظل، ولكل مشهدٍ روح.
ومن ينسى هذا، فلن يُرى إلا كطَبق مكرّر… دسم… خانق… يبعث على الغثيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com